جائزة نوبل للسلام والناجون اليابانيون من القنبلة النووية
وليد محمود عبد الناصر
آخر تحديث:
الأربعاء 16 أكتوبر 2024 - 9:00 م
بتوقيت القاهرة
جاء إعلان اللجنة النرويجية لجوائز نوبل يوم الجمعة 11 أكتوبر 2024 عن حصول منظمة «نيهون هيداكيو» اليابانية غير الحكومية على جائزة نوبل للسلام ليكون بمثابة إقرار من جانب واحد من أهم الجوائز العالمية للسلام بالدور العالمى البناء والفعال والإيجابى الذى تلعبه المنظمة، وغيرها من المنظمات غير الحكومية فى اليابان التى تمثل الناجين من إلقاء الولايات المتحدة الأمريكية لقنبلتين نوويتين على مدينتى هيروشيما وناجازاكى اليابانيتين يومى 6 و9 أغسطس من عام 1945 على التوالى بغرض إنهاء الحرب العالمية الثانية فى قارة آسيا، ويطلق على هؤلاء الناجين باللغة اليابانية تعبير «هيباكشا»، وهم من نجوا من القنبلتين ولكنهم إما أصيبوا بإصابات بقيت معهم أو بإشعاعات نووية ماتوا بها أو منها أو ما زالوا يعيشون بها ويعانون منها بسبب إلقاء القنبلتين النوويتين، بل إن بعض الهيباكشا ذكر فى روايات لهم أن الأحجار فى هيروشيما وناجازاكى ما تزال تحتفظ حتى الآن ببقية من هذا الإشعاع النووى.
ومنظمة «نيهون هيداكيو»، مثلها مثل بقية المنظمات التى تعبر عن «الهيباكشا» تتبنى، منذ تأسيسها فى عام 1956، الدعوة، داخل اليابان وخارجها، للسلم العالمى ولإخلاء العالم من الأسلحة النووية على المدى الطويل، ولضمان عدم استخدام تلك الأسلحة الفتاكة على المديين القصير والمتوسط بغرض العمل من أجل تجنيب العالم بأسره مخاطر حرب نووية قد تأتى على الأخضر واليابس فى كوكبنا فى حالة حدوثها، سواء عن قصد أو عن خطأ قد يصدر من إحدى الدول التى تمتلك السلاح النووى فى عالم اليوم.
وبالتأكيد فإن عدد الناجين من القنبلتين النوويتين الأمريكيتين اللتين ألقيتا على هيروشيما وناجازاكى فى عام 1945 يتناقص بشكل مستمر بفعل عنصر الزمن ومرور الأيام والسنين، ولكن رسالتهم تبقى قوية ولها أصداء واسعة داخل اليابان وعلى مستوى العالم بأسره، باعتبار أنهما المرتان الوحيدتان، حتى الآن، اللتان ألقيت فيهما القنابل النووية على البشر والحجر فنشرت الدمار للمبانى والبنية التحتية والموت لـ 214 ألف يابانى آنذاك، مع نشر الكثير من البؤس والخراب، وآلاف الأطفال اليابانيين الذين كانوا فى ذلك الوقت قد فقدوا آباءهم فى أتون الحرب العالمية الثانية وما شهدته من عمليات ومعارك ومواجهات عسكرية كبرى فى آسيا، فقدوا أمهاتهم وأشقاءهم وأقاربهم وأصدقاءهم نتيجة استخدام القنابل النووية لإجبار اليابان على الاستسلام، أو لتجربة تلك الأسلحة الجديدة حينذاك، أو لأى أسباب ومبررات أخرى يسوقها البعض من هذا الجانب أو ذاك.
وعلى مدار أربع سنوات عشتها فى اليابان فى العقدين الأول والثانى من هذه الألفية الثالثة، أتيحت لى فرص عديدة للذهاب إلى مدينتى هيروشيما وناجازاكى، سواء فى الاحتفال السنوى الذى تقيمه اليابان فى شهر أغسطس من كل عام لإحياء ذكرى إلقاء القنبلتين النوويتين عليها ولتجديد الدعوة للسلام العالمى ولنبذ السلاح النووى واستخدامه، أو فى مناسبات واحتفاليات ومؤتمرات أخرى، وفى كل مناسبة من تلك المناسبات كنت حريصًا على الالتقاء على الأقل بواحد من هؤلاء الناجين من القنبلتين النوويتين، والاستماع إلى روايته عن تلك الأيام الأليمة فى ذاكرته وذاكرة كل أبناء اليابان، خاصة أبناء المدينتين اللتين تعرضتا مباشرة لهذا المصاب الجلل، وأيضًا ليابانيين من مدن وبلدات أخرى تصادف تواجدهم، لسبب أو آخر، فى هيروشيما أو ناجازاكى فى نفس توقيت إلقاء القنبلتين النوويتين على المدينتين.
وبالرغم من اختلاف الروايات فى بعض أجزائها ومكوناتها بين كل شخص من «الهيباكشا» والآخر، بحسب اختلاف الظروف بالطبع ما بين حالة وأخرى وتباين تجربة كل شخص ومكانه والصحبة التى كانت برفقته وقت إلقاء القنبلتين النوويتين، فقد كانت هناك مساحة واسعة للمشترك بين كل تلك الروايات. فعلى سبيل المثال كان عنصر المفاجأة/ الصدمة حاضرًا بقوة لدى الجميع والشعور بالفاجعة كان مشتركًا، خاصة لدى رؤية أجزاء من أجساد بشر آخرين حولهم بعيدة عن أصحاب تلك الأجساد فى مشاهد بشعة وصعبة على أى إنسان، وصاحب ذلك إحساس بأن ما حدث هو بمثابة نهاية الحياة على هذه الأرض وليس فقط فى مدينتهم، بل نهاية الكون بأكمله، خاصة فى المرحلة المبكرة وقت وعقب إلقاء القنبلتين مباشرة، وذلك حسبما استمعت إليه من رواياتهم، حيث لم يروا حولهم سوى الدمار والخراب ودماء القتلى والجرحى مختلطة بأحجار المبانى وأسفلت الشوارع.
إلا أن الأهم فى روايات «الهيباكشا» التى استمعت إليها على مدار سنوات كان عدد آخر من المواقف التى عبروا عنها إزاء موضوعات ومسائل تتجاوز مساحة الخاص إلى مساحة العام.
وفى مقدمة تلك المواقف، أنهم لا ينكرون أو ينفون مسئولية حكومة اليابان فى وقت الحرب العالمية الثانية عما حدث للشعب اليابانى بشكل عام وأهالى مدينتى هيروشيما وناجازاكى على وجه الخصوص من دمار ومعاناة خلال الحرب، خاصة خلال مرحلتها الأخيرة التى شهدت انكسار وهزيمة الجيش اليابانى ثم إلقاء القنبلتين النوويتين على هيروشيما وناجازاكى. فالهيباكشا كانوا دائمًا ما يقرون بأن تحالف القادة العسكريين اليمينيين والساسة اليمينيين، وهو التحالف الذى كان يتحكم فى مسار الأحداث ويسيطر على مفاصل السلطة فى اليابان فى ذلك الوقت، قام بتضليل الإمبراطور «هيروهيتو»، إمبراطور اليابان آنذاك، ودفعوا به إلى اتخاذ قرارات خاطئة ومتسرعة وبناءً على فرضيات قائمة على معلومات مضللة، مما قاد اليابان ليس فقط إلى خسارة الحرب فى نهاية المطاف، ولكن، وخلال الحرب، إلى الاعتداء على دول آسيوية مجاورة جغرافيًّا لليابان واحتلال أراضيها ومن ثم بناء أو تعميق عداوات ومرارات مع تلك البلدان وشعوبها، بعضها بقى حتى الآن. وبالتالى، فقد حمل الهيباكشا تلك النخبة التى كانت تحكم اليابان قبل وخلال الحرب العالمية الثانية جزءًا هامًا من المسئولية عن التسبب فيما حدث من إلقاء الولايات المتحدة الأمريكية القنبلتين النوويتين على مدينتى هيروشيما ونجازاكى اليابانيتين وما خلفتاه من موت ودمار وخراب.
وموقف آخر للهيباكشا يتعين أن نذكره هنا، وهو متصل بالموقف السابق الذى ذكرناه للتو، وهو أنهم كانوا يؤكدون دومًا أنهم كانوا وقت وعقب إلقاء القنبلتين النوويتين على هيروشيما وناجازاكى وعقب ذلك مباشرة، بل وربما لعدة سنوات بعدها، يكنون مشاعر عدائية للغاية تجاه الولايات المتحدة الأمريكية بسبب مسئوليتها المباشرة عن سقوط ضحايا من البشر والدمار المادى الذى تسبب فيه إلقاء القنبلتين النوويتين على المدينتين، إلا أنهم تجاوزوا هذه المشاعر بعد السنوات الأولى التى تلت الحدث وبدأوا يفكرون من منظور أوسع ويدركون أيضًا مسئوليات السلطات التى كانت قائمة فى اليابان وقت الحرب وإصرارها على مواصلة الحرب فى آسيا، بالإضافة إلى خطايا أخرى ارتكبتها تلك السلطات، بل إن بعضهم ذكر أنه وصل إلى خلاصة مفادها أن احتلال الولايات المتحدة الأمريكية لليابان لسنوات فى أعقاب هزيمة اليابان فى الحرب العالمية الثانية جاء بمثابة «تحرير» لليابان من الطغمة اليمينية ذات التوجهات الفاشية التى كانت تمسك بزمام الحكم فى طوكيو فى ذلك الوقت، وأتاحت الولايات المتحدة لليابانيين فرصة بناء نظام ديمقراطى تعددى قائم على سيادة القانون فى اليابان.
إلا أنه يبقى الموقف الأهم والأساسى للهيباكشا هو نشر الدعوة لنبذ السلاح النووى وللسعى لتبنى حظر استخدامه، بالإضافة إلى التعبئة والحشد على الصعيدين اليابانى والعالمى لحظر السلاح النووى كهدف استراتيجى بما يضمن تحقيق السلام العالمى وضمان عيش البشر عبر العالم فى حالة من الأمن والأمان، وذلك كله من خلال أنهم يجولون العالم ولا يبقون فقط داخل حدود اليابان ويتعاونون مع الكثير من الجهات الحكومية وغير الحكومية عبر العالم فيما هو مشترك مع دعوتهم بغرض شرح تفاصيل الدمار والخراب والموت والإصابات والأمراض والإشعاعات التى تسبب فيها إلقاء القنبلتين النوويتين على مدينتى هيروشيما وناجازاكى اليابانيتين بواسطة الولايات المتحدة الأمريكية بكل التفاصيل ومن خلال روايات شهود عيان مباشرين ما زالوا أحياء وكذلك من خلال تسجيلات لمن رحلوا من الهيباكشا منذ عام 1945، وكذلك مع اتباع استراتيجية نقل تلك الثقافة والذكريات التى تعتمد عليها إلى الأجيال الجديدة فى اليابان ووجود الإرادة والالتزام المستمر بحمل تجربة الشهود ورسائلهم ورواياتهم، سواء داخل اليابان أو عبر العالم.