فى الوقت الذى تعرف فيه الولايات المتحدة رئيسا يعادى بصراحة ووضوح وسائل الإعلام المستقلة، ولا يتوانى عن التعبير عن رغبته فى غلق وتحجيم وسائل إعلام راسخة وقديمة ومستقلة، بدأت تخرج أصوات من مختلف بقاع الأرض تشكك فى قيمة الإعلام الحر، وتزايدت الدعوات لفرض المزيد من القيود واللوائح التى تحد من حرية الصحافة والصحفيين. ويستغل دونالد ترامب كل مناسبة ممكنة للهجوم على الإعلام الأمريكى الذى يصفه بأنه مُعادٍ للشعب الأمريكى، ويصف الإعلام بأنه زائف لا يقول الحقيقية. وعلى النقيض من موقف الرئيس الأمريكى، يفتخر المجتمع الأمريكى بإعلامه وخاصة المكتوب منه مثل صحف «نيويورك تايمز، الواشنطن بوست، وول ستريت جورنال»، ويعتقد كثيرون أن هذه الصحف لها الريادة العالمية فى الصحافة المكتوبة ــ ربما تنضم إليها الفاينانشيال تايمز البريطانيةــ إلا أنه عند التحدث تليفزيونيا فلا أحد فى القمة يزاحم برنامج «ستين دقيقة 60 Minutes» والذى يبث مساء كل يوم أحد على شاشة شبكة «سى بى إس CBS» منذ نصف قرن بالتمام والكمال. وبلا شك يطرح استمرار ونجاح وصمود برنامج تليفزيونى لخمسين عاما الكثير من الأسئلة، إلا أنه لا يتركك إلا معجبا بهذا النموذج النادر.
***
متوسط عمر البرامج الأمريكية لا يتعدى ثلاث سنوات، لذا فبقاء برنامج بنفس الاسم وبنفس الفلسفة وبنفس طريقة العرض لهذه السنوات الطوال يثير الفضول حوله. ونجح البرنامج الجاد فى التربع على قمة المشاهدة بـ 14 مليون مشاهد أسبوعيا، ولا يسبقه سوى مشاهدة المباريات الرياضية.
البداية كانت فكرة، والفكرة وراءها شخص، والشخص وراءه دافع. وخلال النصف الثانى من ستينيات القرن الماضى كان الراديو هو الملك ومصدر الأخبار الأساسى، وكان التليفزيون حديث العهد ولم يكن متاحا كالراديو. وخلال الستينيات أيضا تألقت مجلة «لايف LIFE» بصورها المتنوعة والتى كانت حديث النخب السياسية حول العالم وأصبحت صورها محددا كبيرا للرأى العام العالمى والغربى تحديدا. وخرجت فكرة ضرورة خلق برنامج تليفزيونى على غرار مجلة لايف. قلب الفكرة تمحور حول مجلة متنوعة تحكى تليفزيونيا القصص المهمة للجميع، سواء كانت تتعلق بزعيم ملهم أو حرب ضروس أو قصة عامل مهاجر يعمل بطريقة غير شرعية لكسب قوته اليومى. «مجلة تليفزيونية» توفر عمقا يغيب عن عرض الأخبار التقليدى، وتوفر منصة لقصص إنسانية يهتم بها الجميع وليس النخب والساسة فقط، وتتضمن نصا جذابا وحوارا قويا وتعليقا محايدا عن قصص متنوعة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا والأهم إنسانيا. وصاحب الفكرة هو دون هيويت Don Hewitt الذى أسس البرنامج فى نهايات 1967، وهو صحفى لامع لم يُكمل تعليمه الجامعى، ودخل التاريخ كونه من أشرف وأدار فنيا المناظرة الأولى التى تبث تلفزيونيا بين المرشحين جون كينيدى وريتشارد نيكسون عام 1960. تم إقالة هيويت عام 1965 من «سى بى إس» ــ على الرغم من نجاحاته الواسعة ــ لخلاف شخصى مع رئيس جديد للشبكة. إلا أنه عاد بفكرة برنامج ستين دقيقة وكان من الصعب فرضها.
***
أصبح البرنامج الأهم بلا منازع على الشاشات الأمريكية، وربما العالمية، من هنا أصبح 60 دقيقة برنامجا ذا تأثير ونفوذ واسعين يصعب معهما أن يعاديه ديكتاتوريات الحكم أو أعداء حريات الصحافة. وعلى شاشاته ظهر أعداء حريات الصحافة والنشر الأشهر فى التاريخ مثل زعماء كوبا فيديل كاسترو، والصينى دنج سياو بنج والروسى فلاديمير بوتن والأمريكى دونالد ترامب. ساهم البرنامج فى الكشف عن فضائح سجن أبو غريب الذى أدارته الولايات المتحدة بعد غزوها للعراق، وعلى شاشاتها عُرضت الصور الأولى لتنكيل جنود أمريكيين بمعتقلين عراقيين وتعذيبهم وإرهابهم وإهانتهم. وكشف البرنامج كذلك عن برامج التعذيب الأمريكية المعروفة باسم السجون السرية السوداء أو Rendition. وكشف كذلك عن دور سعودى غير مباشر فى تمويل بعض إرهابيى هجمات 11 سبتمبر، وهو ما كان له تأثير كبير على لجان التحقيقات الحكومية المتعلقة بالحادثة وصولا لإصدار الكونجرس قانون جاستا العام الماضى.
وكان لزعماء الشرق الأوسط نصيب كبير من اهتمامات 60 دقيقة، وظهر معهم الرئيس السابق حسنى مبارك، وظهر قبله الرئيس أنور السادات الذى أبدى تخوفه من التعرض للاغتيال، وتحدث للبرنامج زعيم الثورة الإيرانية آية الله الخمينى وكذلك الزعيم الفلسطينى ياسر عرفات، وعبرا ــ منفصلين، كل على حدة ــ عن عدم ممانعتهما قتل السادات على يد شعبه بسبب خروجه عن الإسلام كما ذكر الخمينى، أو بسبب خيانته للقضية العربية كما ذكر عرفات، وقد اغتيل السادات كما توقع الزعيمان بعد ظهورهما على شاشة 60 دقيقة بشهور. ومن أهم لقاءاتهم مع الزعماء العرب تلك التى جمعتهم بمعمر القذافى وبصدام حسين، إلا أن لقائهم مع الرئيس السورى بشار الأسد فى سبتمبر 2013 كان الأكثر إثارة حيث وجه سؤال لبشار الأسد جاء فيه أن البعض يراك ابنًا بارا لوالدك، وتقوم بمثل ما قام به من مجازر، هو قتل آلافا من الإخوان المسلمين فى مدينة حماة بلا رحمة، وأنت تقتل آلافا من السوريين الآن بلا رحمة أيضا!، ورد الأسد شارحا أنه لا يعتبر قتل الإرهابيين مجزرة، وأن الحرب هى الحرب، وليس هناك قتل بطريقة جيدة، وأنه لا يسمى قتل الإرهابين مجازر!.
***
وبعيدا عن الشئون الأمريكية أصبح البرنامج قبلة لأهم زعماء العالم فى مجال السياسة وبعيدا عن السياسة فى الوقت ذاته. عرفت طريق البرنامج مارلين مونرو فى أحرج فترات حياتها، وعرفه كذلك مايكل جاكسون ومن قبلهما محمد على كلاى. أما انجلينا جولى والأمير البريطانى تشارلز والأميرة ديانا فقد باحوا بأسرار كثيرة للبرنامج، ومثلهما فعلت مادونا ومايكل جوردن. ولقد تعرض 60 دقيقة للكثير من المواقف المحرجة خلال تاريخه، لكن أحدثها كان مع الرئيس الفرنسى الأسبق نيكولا ساركوزى الذى رفض إكمال المقابلة ونهض وترك الاستوديو معلقا أنه «كان من الخطأ منحكم هذه المقابلة» وذلك ردا على سؤال رآه محرجا بخصوص زوجته سيسيل.. وبعد أسبوعين طلق ساركوزى زوجته سيسيل وانفصلا.
ولمكانة وبريق البرنامج، اختاره كل من الرئيسين باراك أوباما ودونالد ترامب للظهور الأول لهما بعد تحقيقهما النصر فى انتخابات تاريخية فى عامى 2008 و2016.
تحية واجبة لستين دقيقة فى عيد ميلاده الخمسين.