عودة إبراهيم ناجى
سيد محمود
آخر تحديث:
الثلاثاء 16 نوفمبر 2021 - 8:35 م
بتوقيت القاهرة
شرفتنى الدكتورة سامية محرز أستاذ الأدب بالجامعة الأمريكية حين اختارتنى قبل نحو عام ونصف العام مع مجموعة من الأصدقاء لقراءة مخطوط كتابها عن جدها الشاعر ابراهيم ناجى.
وأخيرا صدر الكتاب عن دار الشروق تحت عنوان: (زيارة حميمة تأخرت كثيرا) وليس أدل من هذا العنوان للكشف عن محتواه الفريد.
اذهلنى الكتاب عند قراءة المخطوط ولا يزال يفعل ذلك مع كل قراءة، كانت سامية ترسل لى تباعا الفصل الذى تنتهى من كتابته، عبر البريد الالكترونى واذا حدث وتأخرت كنت اتصل بها وأسأل: (فين الفصل الجديد يا دكتورة ؟!).
نجحت سامية فى اثارة اهتمامنا بسيرة الشاعر وانتاجه وهى مهمة ليست سهلة كما يعتقد البعض، لأن سنوات كثيرة تفصلنا عنه وعن زمنه والقضايا الفنية التى شغلته، وارتضينا جميعا بحصر ناجى فى لقب (شاعر الأطلال).
علمنى التاريخ ان اللقب مسافة من الشخص، وشكل من اشكال الحصار تحول دون قراءة دقيقة فاحصة، ورأيت أن حملة الألقاب الدالة على التبجيل ظلوا خارج نطاق القراءة وبالتالى خارج نطاق الخدمة مثل التماثيل فى متحف الشمع يفتقرون إلى سبل الحياة.
ومن هنا يمكن النظر إلى ما قامت به محرز كعلامة فى النقد الادبى المعاصر، فقد ادت اكثر من مهمة وتخطت أكثر من حاجز وقفزت فوق العديد من التحديات وربما كان التحدى الأول يتعلق بلغة الكتابة، فهى تعرف أكثر من لغة اجنبية وتدرس الأدب المقارن ودراسات الترجمة بالجامعة الأمريكية لكنها لم تجرب أبدا أن تؤلف كتابا باللغة العربية مباشرةً وحين باشرت الكتابة عن جدها بشكل حميم، كان من الصعب عليها ان تلجأ إلى لغة غير التى كتب بها شعره ومن ثم كانت الكتابة بالعربية رحلة خاضتها محرز بنجاح يسهل إدراكه، فقد خلقت نصا متناغما ينتقل فيه القارئ بين مستويات لغوية مختلفة تختبر طرائق متعددة للسرد، لكنها تأتلف تحت المعنى الحميم الذى ارادته.
وهى تحكى رحلتها مع العائلة بلغة فصحى بسيطة مطعمة بـ(العامية) الدالة عند الضرورة.
الاكثر ادهاشا ان محرز كتبت نقدا أدبيا بهذه اللغة البسيطة الجزلة والخالية من التعقيد ونظرت فى نصوص جدها حياته بطريقة موضوعية وهذا من مكامن السحر المتعددة فى الكتاب.
لم تفكر سامية فى تدويره داخل حلقات ضيقة وأرادته كتابا يخاطب القارئ العام وهذه هى المعادلة الصعبة، لاسيما وانها لم تتنازل عن تأكيد كفاءتها فى استعمال مناهج البحث المعاصرة، ففى العادة يسخر اساتذة الادب من الكيفية التى تكتب بها السير أو المذكرات فى عالمنا العربى، لأن ثمة اصرارا على تقديس الأشخاص عملا بمبدأ (اذكروا محاسن موتاكم) وهو ما رفضته محرز منذ البداية، إذ اعترفت للقارئ بأنها تجنبت طوال حياتها النظر لنصوص جدها بالعمق اللازم لأنها حوصرت بمرويات عائلية صنعت الصورة الاسطورية التى باعدت بينها وبينه.
ترى محرز ان كتابها هو حملة تفتيش فى أوراق جدها ومحاولة للبحث عما قد يجمعها معه لكن ما فعلته أكثر من ذلك بكثير. وظنى ان المفتاح الأفضل للقارئ ينطلق من النظر فى المسافة بين جملة للخالة (دو) قالتها لسامية وهى تمنحها الأوراق التى شكلت العمود الفقرى للكتاب، فقد طالبت بحذف كل ما هو شخصى، بينما أصرت سامية ان الشخصى أصبح من حق القارئ لدرجة أن الأم كانت مع كل اكتشاف ترفع شعار (احنا مكناش نعرف / مكناش حاسين بيه) ثم انتهت إلى القول: (خففى شوية) لكنها سامية مضت فى طريقة منحازة لمفاهيمها عن السيرة واستعملت العديد من المناهج النقدية وانتجت نصا أقرب إلى مناهج النقد الثقافى تفاعلت فيه الدراسات الإنسانية البينية واستعملت الكثير من العلوم المساعدة وأوجدت مجالا خصبا لتفاعل النصوص وأكدت فاعلية مفهوم الحقل الاجتماعى الذى ابتكره الفرنسى بيير بورديو عند النظر لعلاقة الفاعل الأدبى بسياقه الثقافى العام وانتبهت إلى طبيعة الصراعات داخل المجال الأدبى وخارجه.
وتتجلى قدرة المؤلفة فى التعامل مع الأرشيفات بمستوياتها المختلفة، بداية من الأرشيف الرسمى مرورا بالأرشيف الشخصى، وصولا لأرشيفات الصحف التى تستعمل بطريقة أقرب إلى (الكولاج) الذى يستعمله الفنان التشكيلى لترصيع اللوحة، فما أنتجته محرز أقرب إلى نص مرصع بالعديد من الخامات التى تآلفت معها وبالعلامات الثقافية. لا تتوقف محرز عن إنتاج الأسئلة حول حال الأرشيف فى بلداننا التى تعانى مؤسساتها من بيروقراطية كاسحة تحول دون استعمال هذا الأرشيف بطريقة لائقة تنتهى إلى إنتاج معرفة جديدة.
ويشير كتابها بوضوح إلى أن ارشيفنا الأدبى بحاجة إلى وسائل حفظ وقوانين إتاحة وتبويب وترميم ثم إعادة فهم وتصحيح لبعض الوقائع التى يتم نسخها وإعادة إنتاج أخطائها دون فحص كاف، حيث لا يجوز عند كتابة تاريخ الأدب الاعتماد على المرويات والاستسلام لها دون تدقيق ويكفى هنا إلى ما تذكره المؤلفة بتهكم عن جرائم الشاعر صالح جودت الذى صاغ لحياة ناجى الكثير من الأبعاد الدرامية والقصص التى لا أساس لها من الصحة.
اخيرا تعيد محرز الاعتبار لمعنى (الاستعادة) لأن صورة ابراهيم ناجى التى تتشكل عبر صفحات الكتاب تقارب بالسرد طريقة تكوين الصورة الرقمية (ديجتال) وتتحرر من أسر رومانسيته الصحيحة جدا، لكنها تمنحه مساحة اخرى نكتشف فيها كيف تغافل النقاد عن دراسة كتاباته النثرية وكيف لم ينتبهوا لأدواره التنويرية الأخرى كطبيب حمل على عاتقه أعباء التخفيف عن مرضاه ومداواة أمراضهم الجسدية والاجتماعية. يطل ناجى كفاعل مجتمعى على طريقته بفضل هذا الكتاب يخرج من فاترينة العرض المتحفى ويعاد إنتاج سيرته كمترجم رائد قطع شوطا فى إنجاز مهمة (توطين النصوص) ونكتشف فيه وجه الشاعر المجدد وربما المنبوذ غير المنسجم مع المؤسسات التى عملت على تنميطه، بينما سعى هو إلى اداء ادواره كما يفهمها وظهر تنويريا عن حق، جديرا بطموحه فى بلوغ معنى الحداثة التى امتدت من خدمة المجتمع إلى السعى وراء تغييره.