نجيب محفوظ «مؤسسة أدبية» لا تغيب
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
السبت 16 ديسمبر 2023 - 7:55 م
بتوقيت القاهرة
ــ 1 ــ
ظاهرة لافتة للنظر، أرصدها وأتابعها باهتمام ــ فى السنوات العشر الأخيرة ــ تمر السنوات تباعا، إذ رحل نجيب محفوظ فى العام 2006 (أى منذ سبع عشرة سنة)، وقبل أيام مر 112 عاما على ميلاده، وكلما مر عام أو كرت أعوام تباعدنا عن محفوظ، ميلادا ورحيلا بحساب الأيام والسنين، يتجلى حضوره الإبداعى كأنصع ما يكون، ويقبل على قراءته أمواج وأمواج من الشباب (لا أتردد فى أن أقول إنها تراوح بين عدة آلاف) كل عام، ويدهشنى هذا الإقبال الحميم على أعماله، من قرأ منهم عملا واحدا (رواية كانت أم مجموعة قصصية) يريد أن يقرأ المزيد من الأعمال، ومن قرأه فى مرحلة من العمر يكتشف حضورا جديدا وجمالا متجددا وأدبا مصريا وعربيا يقف شامخا بندية وجسارة مع نظرائه فى الآداب الأخرى..
وما زلت أرى محفوظ لا يقل قيمة ولا حضورا فى أدبنا الحديث عن «دوستويفسكى» و«تولستوى» فى الأدب الروسى العظيم، ولا عن بلزاك أو ستندال فى الأدب الفرنسى، ولا عن «توماس مان» فى الأدب الألمانى، ولا «فوكنر» فى الأمريكى، ولا «ماركيز» فى آداب أمريكا اللاتينية.. إلخ.
ــ 2 ــ
سنويا أقرأ عشرات المنشورات لشابات وشبان، تتراوح أعمارهم بين الخامسة عشرة وحتى الأربعين، يقبلون بفرحة «المكتشف» لقيمة أصيلة وحقيقية فى أدبهم الحديث والمعاصر، قيمة استطاعت ــ عبر ما يقرب من الثمانين عاما ــ وبدأب وإصرار يفوق القدرة البشرية «العادية»، أو بـ «عناد الثيران» كما وصف محفوظ نفسه فى حواره لرجاء النقاش، أن تقرأ وتكتشف روائع تراثها العربى، وروائع التراث الإنسانى، ثم تحدد لنفسها مسارا ــ بعد أزمة عنيفة تجاذبته فيها الفلسفة والأدب ــ انتصر فيها للأدب، وقرر أن تكون «الكتابة» هى وسيلته الوحيدة لإنفاذ كل ما يريد أن يقوله ويعلنه ويصدح به، وأن يؤصل «جماليا» لفن وافد مستحدث، أدرك بحس باكر للغاية أنه صار «شعر الدنيا الحديثة»، كما أدرك نجيب محفوظ أن عليه دورا وأن عليه تكليفا، وهو أن يجعل من ذلك الفن «ذى الحيل الماكرة» فنا قارا راسخا فى أدبنا الحديث، أو كما وصف توفيق الحكيم صنيع محفوظ «إذا كنا رمينا الأساس، فمحفوظ صعد بطوابق البناء الشاهقة».
ــ 3 ــ
منذ 1939 (تاريخ نشر أول رواية لمحفوظ) وحتى 2006 (تاريخ صدور الطبعة الأولى من رواية «أولاد حارتنا» لأول مرة فى مصر) تحققت نبوءة توفيق الحكيم بكاملها، ومن قبله ــ أو بعده بقليل ــ سيتحقق الوصف الدقيق الذى كتبه لويس عوض (حتى لو كان عنيفا فى وقته بعض الشىء مع محفوظ!) حين قال:
«ونجيب محفوظ عندى كاتب من أولئك الكتاب القلائل فى تاريخ الأدب فى الشرق والغرب، كلما قرأته عشت زمنا بين أمجاد الإنسان، وقالت نفسى: ليس فن بعد هذا الفن، ولا مرتقى فوق هذه القمم الشاهقة».
والغريب والمدهش أن شبانا وشابات أثق تماما فى أنهم لم يقرأوا وصف لويس عوض هذا، ولا ما كتبه عن محفوظ (لأسباب يضيق المقام عن تفصيلها الآن)، يكتبون عبارات بألفاظ مختلفة تدور حول هذا المعنى «الإبداع السائغ الخالص الذى يرتقى إلى قمم شاهقة لا تطاوله قمة أخرى!) نعم. صار محفوظ ــ وبدون أى مبالغة ــ «مؤسسة أدبية» أو «فنية» مستقرة تشبه تلك المؤسسات الكثيرة التى تقرأ عنها، ولعلك لا تعرف ما يجرى بداخلها وهى مع ذلك قائمة وشامخة وربما جاءها السياح أو جىء بهم ليتفقدوها فيما يتفقدون من معالم نهضتنا الحديثة. والأغرب من هذا أن هذه المؤسسة التى هى فى نجيب محفوظ ليست بالمؤسسة الحكومية التى تستمد قوتها من الاعتراف الرسمى فحسب بل هل مؤسسة شعبية أيضا يتحدث عنها الناس بمحض الاختيار فى القهوة وفى البيت وفى نوادى المتأدبين والبسطاء...» (والأسطر السابقة للويس عوض أيضا!)
ــ 4 ــ
ومن توفيق الحكيم، ولويس عويض، ورصدهما الحى المعاصر لإنجاز محفوظ وارتفاعه بطوابق الرواية العربية الشاهقة، إلى واحد من النقاد المعاصرين (بل من أهم النقاد المعاصرين) وهو محمد بدوى فى قراءته لسردية نجيب محفوظ..
يرصد باقتدار لحظة بدوى اكتمال المتن المحفوظى، وانضمامه إلى مدونة التراث الإنسانى (والعربى) يحاور قراءه، يخايلهم، يثير إعجابهم، وربما يثير حفيظتهم، لكنه فى كل ذلك حى، لم يمت، قادر على التحاور وإثارة الأسئلة وفتح آفاق لا نهائية من التأويلات لهذا «الأدب الجميل». يقول بدوى: «نبدأ من النهاية، من حيث أنهى الكاتب الكبير متنه الكبير، فكتاب نجيب محفوظ قد انغلق، لينفتح على التأويل والقراءة. ونحن نبدأ فى برهة بعينها، تجعل ما نقوله عنه مصابا بالمعاصرة التى تأخذ حينا شكل الحجاب الذى يموه على النظر، وحينا شكل الميزة، فكلام المعاصرين عن المعاصرين، دائمة، يتلون باللحظة وأطيافها، فيجىء، كاشفا عن تورط الخطاب لتورط منتجه فيما تموج به اللحظة.
بعد حين، قد يجىء آخرون لينسجوا خطابا عن كتاب محفوظ، فيخضعوه لمعضلاتهم، و«روح عصرهم». قد يقرظونه كما نقرظه، وقد يسلقونه بألسنتهم، بل قد يتجاهلونه تماما، فيتجمد، بل قد يبدو للبعض أنه دخل محاقه، ومات. آنذاك يبدأ الناس فى التنقيب عن أدب آخر، لكاتب آخر همشه أدب محفوظ، لكنه ظل هناك كامنا ينتظر نداء من يناديه، ويحرره من موت الكتابة»...
(من مفتتح مقال نشره الناقد الكبير محمد بدوى بعنوان «سردية نجيب محفوظ» بمناسبة مرور عشر سنوات على حصوله على نوبل).
ــ 5 ــ
وأنا ممن يظنون أن نجيب محفوظ صارا «خالدا» بحضوره الإبداعى، وسيرته الفذة، و«أعماله» التى سعت لكتابة «سردية الهوية المصرية» الأصيلة، من منظور تعددى منفتح متسامح؛ هذه الكتابة التى تظهر بأسمى تجلياتها فى أعماله ككاتب، وتتجسد فى تصرفاته وسلوكياته كإنسان منذور لهذا الإنجاز العظيم..