أمريكا.. والإسلام السياسى السورى

بشير عبد الفتاح
بشير عبد الفتاح

آخر تحديث: الإثنين 16 ديسمبر 2024 - 8:15 م بتوقيت القاهرة

لطالما أبدى الرئيسان الأمريكيان؛ المنتهية ولايته بايدن، والمنتخب ترامب، عدم اكتراث بسوريا. تلكم، التى اعتبراها غير صديقة للولايات المتحدة، بعيدة عن ميادين معاركها، ومن ثم لا تستوجب انخراطا أمريكيا فى شئونها. بيد أن هكذا مزاعم بدأت تتهاوى على وقع العملية المحكمة، التى نفذتها واشنطن، بالتعاون مع تل أبيب وأنقرة، للإطاحة بنظام الأسد. ضمن سياق مخطط مسبق لتغيير موازين القوى بالمنطقة لمصلحة إسرائيل، توطئة لهندسة شرق أوسط جديد.

رغم إخفاق محاولاتها السابقة لتمكين ما اعتبرته «إسلاما سياسيا معتدلا وحداثيا»، من اعتلاء أروقة السلطة فى البلاد العربية؛ أسال السقوط السريع للنظام السورى، لعاب الولايات المتحدة لإحياء مشروعها المزمن، عبر آليتين: أولاهما، إشهار فزاعة الإسلام المتطرف. وثانيتهما، إعادة تسويق خيار الإسلام الليبرالى الديمقراطى.

أما عن الآلية الأولى، فعلى إثر الفراغ السياسى والأمنى الناجم عن سقوط نظام الأسد، هرعت دوائر أمريكية إلى تأجيج المخاوف من عودة تنظيم «داعش» الإرهابى. بينما يفتأ الرئيس المنتخب ترامب، يلوح بسحب القوات الأمريكية، البالغ عددها نحو 900 عنصر، من شمال شرقى سوريا. ولقد حذرت قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التى شكلت رأس حربة تحالف دولى ضد «داعش»، من تحرك خلايا التنظيم النائمة، ضمن أعداد صغيرة فى صحراء شرق البلاد، لإعادة بناء قدراته، خلق ملاذات آمنة، معاودة هيكلة شبكاته ببطء، ولكن بثبات فى جميع أنحاء البلاد، خلال المرحلة الانتقالية.

بدورهم، يشكك خبراء فى قدرة «هيئة تحرير الشام»، و«قوات سوريا الديمقراطية» على التصدى لـ«داعش»، الذى ما برح يسيطر على مناطق فى الصحراء الوسطى والشرقية من سوريا. فى غضون ذلك، يترقب سجناء التنظيم وأسرهم، الذين يناهز عددهم خمسين ألفا، داخل سجون تديرها «قوات سوريا الديمقراطية»، فى شمال وشرق البلاد، اقتحام أنصارهم تلك السجون، لتحريرهم وإعادة رص الصفوف لتأسيس الخلافة المزعومة.

بموازاة ذلك، لم تتورع واشنطن عن توظيف «الفزاعة الداعشية»، لتسويغ استمرار تمركزها العسكرى فى شرق الفرات، ومباشرة تنفيذ عمليات داخل سوريا. حيث أعلن البنتاجون أنه منذ الثامن من ديسمبر الحالى، نفذت القوات الأمريكية «ضربات جوية دقيقة» طالت 75 هدفا، تضمنت معسكرات لداعش وعناصره وسط سوريا. كذلك، تتيح فزاعة «داعش» لإسرائيل التذرع للتخارج من اتفاقية فض الاشتباك المبرمة مع دمشق عام 1974، ومن ثم تأبيد احتلال الجولان، اقتضام المزيد من أراضى سوريا، وتدمير القدرات العسكرية لجيشها.

•  •  •

فى كتاب أصدره عام 2024، بعنوان «الحكم غير المباشر: صناعة التسلسل الهرمى الدولى للولايات المتحدة»، يشير، ديفيد أ. ليك، إلى الآلية الأمريكية الثانية، من خلال تسليطه الضوء على ما أسماه «الحكم غير المباشر». ذلكم الذى بات الوسيلة الحيوية للسيطرة الأمريكية على الدول والشعوب بأدوات غير تقليدية وغير عسكرية. حيث يتم تعزيز القدرات الدبلوماسية والاقتصادية لاستبقاء النفوذ الكونى، وتأبيد الهيمنة عالميا. وينطوى ذلك النمط على نبذ الهيمنة المباشرة بصورتها الصلبة؛ والاعتماد على أدوات ناعمة، من قبيل الدعم الاقتصادى والسياسى. وذلك عبر تمكين نخب محلية من الحكم فى الدول التابعة، تتلاقى تطلعاتها مع المصالح الأمريكية.

عقب سقوط الأسد، عمدت واشنطن إلى تبنى سياسة تعويم القيادى المتطرف، أبو محمد الجولانى، زعيم «جبهة تحرير الشام»، الذى سبق وأدرجته وجماعته على قائمة الإرهابيين عام 2013، كشخصية سياسية قائدة فى سوريا الجديدة. فعبر حواره المثير مع شبكة «سى.إن.إن» الإخبارية الأمريكية، حرصت واشنطن على إظهاره إسلاميا معتدلا، يتبنى خطابا حداثيا ليبراليا. ولم تجد إدارة بايدن، غضاضة فى تمكين الفصائل المسلحة بقيادة هيئة تحرير الشام، المصنفة إرهابية من قبل الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبى وتركيا، من الاستئثار بحكومة تسيير الأعمال المؤقتة. كما تعهدت بدراسة إمكانية رفع اسمه وجماعته من لائحة الإرهاب بعد انفصاله عن القاعدة وداعش. مبررة مواقفها تلك، بأن الجبهة تعد سلطة الأمر الواقع فى سوريا الآن، بعدما نجحت فى توحيد المعارضة المسلحة، وبسط هيمنتها على معظم أصقاع البلاد فى أقل من أسبوعين. ورغم مرجعيته الإخوانية المقلقة لبنى وطنه ومحيطه الإقليمى والدولى، تعول واشنطن على تعاون مع حكومة، محمد البشير، يفضى إلى تبريد الصراع مع إسرائيل. فضلا عن المساعدة في الكشف عن مواقع ومستودعات الأسلحة الكيماوية السورية، والتأكد من تدميرها، تحت إشراف أممى.

 

•  •  •

بينما كان يدير إدلب بعد السيطرة عليها، واجه الجولانى و«حكومة الإنقاذ» التابعة لهيئته احتجاجات غاضبة من قبل الإسلاميين المتشددين، فضلاً عن ناشطين مدنيين، بجريرة مقتل بعض المحتجزين خلف قطبان زنازين «هيئة تحرير الشام». وشبه المنتقدون حكم الجولانى ورجاله بحكم الأسد؛ واتهموا الهيئة بالاستبداد، قمع المعارضة والتنكيل بالمنتقدين. علاوة على التهرب من القتال ضد القوات الحكومية، وتهميش المتطرفين والمقاتلين الأجانب في إدلب، لمنعهم من الانخراط فى مثل هذه الأعمال، ابتغاء مرضاة الجهات الدولية. كما وصف المتظاهرون قوات الأمن التابعة للهيئة بـ«الشبيحة».

تطلعا منها لتحسين صورتها واحتواء الاستياء الجماهيرى، بادرت هيئة تحرير الشام إلى إجراء العديد من الإصلاحات على مدار العام الماضى. حيث أعادت هيكلة أجهزة أمنية اتهمت بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان. وأسسَت «إدارة الشكاوى» لتمكين المواطنين من تقديم شكاواهم ضد الهيئة. ومنذ ذلك الحين، انبرى الجولانى، الذى استعاد مسماه الأصلى، أحمد الشرع، وحكومة الإنقاذ فى طمأنة الجماهير السورية والمجتمع الدولى. حيث وعدوا الشعب السورى، بشتى أطيافه، بالأمن، المساواة، والتعايش السلمى تحت مظلة دولة مدنية ديمقراطية. كما تعهدوا للدول المجاورة والقوى الإقليمية والدولية، باعتماد نهج تصالحى، ينشد السلام ويرسخ مبادئ حسن الجوار.

بين ثنايا مسيرتها لإبراز صورة حديثة ومعتدلة، لكسب تأييد السكان المحليين والمجتمع الدولى، مع الحفاظ فى الوقت نفسه على هويتها الإسلامية، لاستبقاء ولاء وثقة المتشددين المواليين لها، تمضى هيئة تحرير الشام فى حقل ألغام. ففى سياق مساعيها للتوفيق ما بين توقعات قاعدتها الإسلامية، والمطالب الأوسع للشعب السورى، الذى يسعى إلى الحرية والتعايش بعد سنوات من الحكم الاستبدادى فى عهد الأسد، تكابد الهيئة تحديات جمة. فعلى سبيل المثال، واجهت الهيئة وحكومة الإنقاذ، فى ديسمبر 2023، رد فعل عنيف بعد أن انتقد المتشددون «مهرجانا» أقيم فى مركز تسوق جديد باعتباره «غير أخلاقى». وفى أغسطس الماضى، أثار حفل مستوحى من الألعاب البارالمبية انتقادات حادة من المتشددين، مما دفع حكومة الإنقاذ إلى تشديد القيود على تنظيم هكذا فعاليات.

•  •  •

ربما تراهن واشنطن على أن يفضى استثمارها الاستراتيجى فى تجربة الجولانى و«هيئة تحرير الشام» داخل سوريا، إلى كسر شوكة التنظيمات المتطرفة، أو ترويضها. وذلك عبر نزع سلاحها، تحويلها عن العسكرة، واستيعابها فى عملية سياسية مدنية ديمقراطية. فى سبيل ذلك، حثت إدارة بايدن «هيئة تحريرالشام» وزعيمها أحمد الشرع، على عدم الاستئثار بقيادة سوريا ما بعد الأسد. كما نصحتها ببلورة عملية سياسية نزيهة، لا تقصى أحدا، لتشكيل حكومة تعبر بالبلاد غياهب المرحلة الانتقالية الصعبة. وفى هذا السياق، شدد وزير الخارجية الأمريكى، أنتوني بلينكن، على أن الانتقال فى سوريا يجب أن يؤدى إلى «حكم موثوق، شامل وغير طائفى» بما يتفق مع قرار مجلس الأمن الدولى رقم 2254، القرار الذى تمت الموافقة عليه عام 2015، ويدعو إلى عملية بقيادةٍ سورية تتولى الأمم المتحدة تسهيلها، التأسيس لحكم غير طائفى فى غضون ستة أشهر، تحديد جدول زمنى لعملية صياغة دستور جديد، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة.

محفوفة بالمخاطر، تبدو الاستراتيجية الأمريكية لإعادة تسويق ما يسمى «الإسلام السياسى المعتدل»، فى سوريا ما بعد الأسد. ففى حين يأبى السوريون، ومن ورائهم دول المنطقة، شعوبا وحكومات، إلا التصدى لهكذا مخطط؛ يشكك خبراء أمريكيون فى نجاعة مساعى بلادهم من أجل هندسة المجتمعات أو بناء الدول، وفقا للأهواء والمصالح الأمريكية.»

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved