الرؤية السردية للجائحة الكورونية

بشير عبد الفتاح
بشير عبد الفتاح

آخر تحديث: الثلاثاء 18 يناير 2022 - 7:48 م بتوقيت القاهرة

ها هى جائحة كورونا تدلف عامها الثالث على التوالى، بينما لا تفتأ رؤيتها السردية تتخبط فى ظلمات الغموض واللا يقين. ففى خضم تسونامى المحتوى المضلّل، الذى يتم تداوله، بشكل ممنهج ومغرض، عبر مواقع التواصل الاجتماعى، لا تزال علامات الاستفهام ذات الصلة، بمنشأ، وتداعيات، ومآلات، فيروس «كوفيد 19»، تطارد إجابات، يمكن الاطمئنان إليها علميا.

من جانبهم، يجنح بعض علماء البيولوجيا الجزيئية، لإرجاع الأمر إلى نظرية التسرب المخبرى، استنادا إلى سمات فريدة يتمتع بها ما اصطلح على تسميته «موقع انقسام إنزيم الفورين»، الموجود لدى فيروس «كورونا»، والوثيق الصلة بـ«معهد ووهان لعلم الفيروسات». فى المقابل، يشكك رهط آخر من الاختصاصيين، فى علمية ذلك الطرح. بدورها، تجمع وكالات الاستخبارات الأمريكية قاطبة، على أن الحكومة الصينية ربما لم يكن لديها سابق معرفة بفيروس «سارس ــ كوف ــ 2» قبل تفشيه فى ووهان. فلربما ظهر فى موعد لا يتجاوز نوفمبر من عام 2019، أى قبل أشهر من إعلان وجوده، فيما لم يتم تخليقه، أو تطويره بغرض استعماله كسلاح بيولوجى. أما الصين، فما برحت تزعم، دونما دليل موثوق، أن مصدر «كوفيد ــ 19»، قد يكون الولايات المتحدة، ودول أخرى.

فى حين تبارى الخبراء والمحللون، منذ بداية الجائحة، فى التنظير لحقبة ما بعد كورونا، تكاد تتفق الاجتهادات العلمية على استمرار «المرحلة الكورونية»، وإن بوطأة أضعف. تتجلى فى توالى ظهور متحورات فيروسية، سريعة الانتشار، لكنها محدودة الخطورة. فمؤخرا، خلص تقرير لصحيفة «صنداى تايمز» البريطانية، إلى أن العالم أدرك ذروة الوباء، التى تنكسرعلى إثرها حدته، بحيث يتحول بعدها إلى وضع مزمن، فلا يتوارى الفيروس، وإنما تنتهى خطورته. ما يعنى أنه سيتحول من وباء إلى داء، أى أنه سينتشر من دون التسبب فى أعراض صحية خطيرة تستدعى التدخل الطبى الطارئ. الأمر الذى دفع كثيرا من العلماء لتوقع بقاء «فيروس كورونا،سارس ــ كوف ــ2»، مع انتهاء الوباء، بحلول نهاية العام الجارى. وقد ارتكن أولئك العلماء، فى طرحهم، على المستويات العالية من المناعة الجماعية، الناجمة عن توفر لقاحات وأدوية جديدة، تتيح بدورها بلوغ مرحلة التكيف، أو التعايش مع الفيروس، بنفس الطريقة التى يتعامل بها البشر مع الإنفلونزا مثلا. وبذلك، تنتقل الإنسانية من مرحلة «الجائحة»، إلى حقبة «الوباء المتوطِّن»، أى المرض الذى يستمر مع مرور الزمن، فى توازن مستقر مع المناعة، التى تتولَّد لدى السكان بفعل التعرض للإصابات، وتعاطى اللقاحات.

وبينما ستفضى طفرات الفيروس إلى ظهور متحورات جديدة، على شاكلة «ألفا»، و«دلتا»، و«أوميكرون»، أو خليط منها، إلا أنها لن تكون فتاكة. وتكاد تتشابه تداعيات الإصابة بها مع أعراض نزلات البرد الموسمية العادية، ما يشى باقتراب انكسار ذروة الجائحة. ويلمس العلماء فى سرعة تكاثر المتحورات مؤشرا على تراجع خطورتها، على نحو ما يبدو مع متحور «أوميكرون»، الذى من المرجَّح أن يشكل مرحلة انتقالية بين الجائحة والوباء. على أن يتفانى المجتمع الدولى فى توسيع نطاق التغطية اللقاحية، ويتحرى العدالة فى توزيع اللقاحات عالميا. وبناء عليه، شرعت الدوائر السياسية والأوساط العلمية، فى تهيئة بلدانها للتعايش مع الوباء، أسوة بما جرى مع أوبئة فيروسية مشابهة، ظهرت ولم تندثر، خلال السنوات الخمسين الماضية.

خلافا لجوائح وبائية بائدة فى أزمان غابرة، تجابه جائحة «كورونا» تحديا عصيبا لجهة تأثيرها على المشاعر الإنسانية والسلوك البشرى. ذلك المتمثل فى تزايد معدلات العنف، سواء على المستوى الأسرى، أو على صعيد العلاقات الدولية. حيث تعاظمت حدة النزاعات بين الدول، فيما ارتفعت معدلات الجريمة، وازدادت نسب الطلاق، وتفاقمت الخلافات الزوجية. أما بخصوص المقاربات الأدبية، فعديدة هى الأعمال الإبداعية، التى تعرضت للتجارب العاطفية فى خضم الجوائح الوبائية. فقبل أربعة عقود خلت، دلفت من بوابة الأدب العالمى الرواية الشهيرة المعنونة: «الحب فى زمن الكوليرا»، للأديب الكولومبى الأشهر، جابرييل جارثيا ماركيز، صاحب نوبل فى الآداب عام 1985. أما عربيا، فقد أتحفتنا الأديبة اللبنانية، ستيفانى عوينى، فى أغسطس الماضى، بروايتها المعنونة: «حب فى زمن الكورونا». وعلميا، اصطدمت فكرة التباعد الاجتماعى، التى تقتضيها آليات مجابهة جائحة «كوفيد ــ 19»، بما تطرحه عالمة الإناسة بجامعة مونبلييه الفرنسية، جنفياف زويا، لجهة ارتباط التماس الجسدى بالسلوك التعبيرى، والسمت الهوياتى لغالبية شعوب منطقة حوض المتوسط.

أما على صعيد التناول المعرفى للجائحة الكورونية، فقد أطل علينا صديقنا المفكر الواعد، صلاح سالم، بمقاربة معرفية شمولية معمقة. ففى مسعى منه لتشريح القلق المروع على المصير الإنسانى، انبرى المؤلف فى سبر أغوار حالة الفزع الرهيبة، التى أثارتها الجائحة، قياسا إلى سابقاتها. وفى سفره الماتع، الذى صدر، قبل قليل، عن «دار العين» للنشر، بعنوان: «تأملات فى الوضع البشرى»، أرجع باحثنا المتألق، تلك الحالة المركبة إلى عوامل أساسية ثلاثة: أولها، ارتفاع قيمة الشخصية الإنسانية فى عصر الديمقراطية الليبرالية، إلى درجة بات معها الحزن العام على موت شخص واحد، يفوق نظيره على مئات الرعايا فى عصور الاستبداد والإقطاع. وثانيها، اتساع حركة السفر والسياحة على نحو جعل انتقال العدوى أمرا حتميا، مثلما جعل تأثير الوباء على حركة التجارة كارثيا. أما ثالثها، فيتجلى فى انتشار وسائط التواصل الاجتماعى التى أكسبت الموت بعدا دراميا. فما كانت تعلنه الحكومات عن ضحايا الأوبئة السابقة لم يكن يعدو مجرد أرقام صماء. أما الفرد المعاصر، بعدته التواصلية الخاصة، فيتداول أخبار الأقارب والأصدقاء والزملاء بلغة شجية وانفعال عاطفى أحال «الفيس بوك»، مثلا، إلى حائط مبكى فضائى.

بنظرة فلسفية ثاقبة، يتوقف، سالم، عند تلك الأسئلة الكبرى التى طرحها الوباء على الأنساق المحيطة بالوجود الإنسانى، والتى تكاد تصوغ شروطه المتمثلة فى: الدين، والزمن، والمجتمع، والدولة، والنزعة العالمية. فعندما وجد البشر أنفسهم فى مجابهة قاسية مع أكثر أشكال الحقيقة صلابة، وهو الموت، ثارت مخاوفهم، وطفقوا يبحثون عن يقين يمتص فزعهم، ومن ثم أعادوا طرح سؤال الدين. وعندما وجدوا أنفسهم فى مواجهة عالم يلفه السكون، ويتوارى فيه الآخر البعيد، الذى جسد دوما إطارا مرجعيا تقاس به وإليه حركة الذات، أعيد اكتشاف الآخر القريب، وتم طرح سؤال الذات نفسها. ولقد وجدوا أنفسهم أسرى لعشرات القواعد والمحظورات التى فرضها التباعد الاجتماعى أو العزل المنزلى، فيما ينهض بأعباء الحياة حولهم أصحاب مهن لم تكن تحظى باهتمامهم. فى المقابل يختفى نجوم الحياة الأكثر حظوة فى الفن والرياضة والدعاية والإعلام، ممن كانوا يستقطبون اهتمامهم. عندئذ، مضوا، ولو على استحياء، فى طرح سؤال المجتمع الحديث ومدى عدالته.

لا يكاد يجد الناس أنفسهم رعايا لدول، اختلفت فيما بينها حول سرعة وكفاءة استجابتها للوباء، حتى يتنادوا إلى سؤال الدولة، وأى أشكالها أقدر على حماية مواطنيها من الكوارث، بفعالية تتوازى مع خطورتها، وعدالة تتسع لجميع مواطنيها. وأخيرا، يهرع البشر إلى سؤال العالمية، متشككين فى جدوى النظام العالمى، ومدى قدرته على صياغة تضامنات تبرر وجوده. حيث تختلف الدول الكبرى والتجمعات الإقليمية حول استراتيجيات مواجهة الوباء، بل تحاول توظيفه سياسيا فى صراعاتها. إذ لم ترعوِ عن احتجاز اللقاحات، التى أنتجتها بكميات تفوق أعداد مواطنيها، فيما يموت مواطنو الدول الأخرى بمعدلات تستعصى على الدفن أو الحرق، وفى سياقات لا تمنح الفرصة لذويهم، حتى لتودعيهم.
بمنأى عن غياهب الطروحات اللايقينية، وتعقيدات السرديات غير المكتملة، تظل المشاعر الإنسانية صنوا للطبيعة البشرية، حتى فى أصعب المواقف وأشد الملمات. فبينما تدهمهم زلزلة الساعة، لا ينفك الناس يحبون ويتناسلون. حيث يقول تبارك وتعالى فى الآية الثانية من سورة الحج: «يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها». ولا تختلف الحال جذريا عند الحساب، حيث يقول سبحانه، فى الآية 67 من سورة الزخرف: «الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين». وفى تفسيره للآية الكريمة، يقول العلامة ابن كثير: إن الأحباء والأخلاء غير المؤمنين سيتبرأون، يومئذ، من بعضهم البعض، ويتنكرون لبعضهم البعض، بينما يبقى المؤمنون على وفاق ومودة. ويرى الإمام الطبرى، أن المتخالين يوم القيامة على معاصى الله فى الدنيا، يتبرأ بعضهم من بعض، إلا الذين كانوا يتخالّون فيها على تقوى الله وطاعته. وفى روضات الجنات، يغمر الحب والتواد أصحاب النعيم المقيم، حيث يقول الحق، تجلت قدرته، فى الآية 47 من سورة الحجر: «ونزعنا ما فى صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين». وفى تفسيره، يقول القرطبى: يدخل أهل الجنة الجنة، على ما فى صدورهم فى الدنيا من الشحناء والضغائن، حتى إذا توافوا وتقابلوا، نزع الله ما فى صدورهم من غل دنيوى. إذ لا يطأ مؤمن الجنة، حتى يطهره، مُقلب القلوب، من الأحقاد والخصومات كافة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved