«الوشم الأبيض» لأسامة علام.. ابحثْ عن خلاصك!
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
الجمعة 17 فبراير 2017 - 10:00 م
بتوقيت القاهرة
«الوشم الأبيض»، هى الرواية الخامسة للكاتب والطبيب المصرى المقيم بكندا، أسامة علام، صدرت أخيرا عن دار الشروق، وهى تدور فى ما يشبه أجواء الواقعية السحرية بغرابتها وعوالمها الأسطورية وظلال الغموض والإثارة التى تخيم عليها. فى جلستين فقط، قرأت هذه الرواية الجميلة باستمتاع كبير (تقع فى 212 صفحة من القطع الصغير، وبغلاف مستوحى من لوحة للفنانة التشكيلية زينة سليم).
هناك فى كندا، أرض المهجر وبرزخ الخلاص والعبور (كما يراها الحالمون فى أماكن كثيرة)، حيث يتلاقى الغرباء من كل مكان يبحثون عن وطن بديل وهوية إنسانية شاملة تتعالى على العرقيات والنزعات الدينية والطائفية والمذهبية، وحيث «نرقص مع الآخرين فى دوائر، مستمتعين بسلام إخوتنا جميعا كبشر»، تشملهم بعطفها وتربت على غربتهم بحنان وتمنحهم الدفء والسلام الداخلى. لكن هل هى كذلك فعلا؟ وهل هى قادرة على منح السلام الداخلى وتبديد القلق الروحى والنفسى لمواطنيها خاصة من المهاجرين؟
بطل الرواية وساردها الدكتور أشرف المدنى، طبيب نفسى مصرى هاجر إلى كندا واستقر بها ورغم ما حققه من استقرار نسبى ونجاح وسمعة طيبة، فإنه يتعرض لتجربة مثيرة ورحلة غرائبية تتداخل فيها الأساطير وتناسخ الأرواح والتنقل عبر الأجساد والأزمان، تجعله يواجه ذاته بما حاول دائما الهروب منه، أن يكتشف روحه الحقيقية فى عمقها وامتدادها الضارب حتى جذور الجذور؛ إلى الأجداد والآباء.
فى هذه الرحلة العجيبة سيقع أشرف المدنى فى حب فتاة كندية سمراء أمها أوغندية تحكم «شعبا لا يمرض» فى أدغال أفريقيا له طقوسه وثقافته المحلية الخاصة، وأبوها «كندى» غريب الأطوار من أصول أوروبية لديه التباسات فى هويته الجنسية تجعله يتحول إلى امرأة!
سيكتشف المدنى فى غمار هذه الرحلة التى ستصهره صهرا وتنتهى نهاية مأساوية، لكنها فى ذات الوقت ستكون نقطة نوره وعثوره على ذاته وخلاصه، أنه لا تعارض بين البحث عن هويتك الأصيلة الراسخة وبين الانخراط فى عالم يتسع للجميع، على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وعقائدهم وتصوراتهم الخاصة للكون والحياة والإنسان.
سيثير إعجابك بالتأكيد هذه المقدرة على اجتذابك لعالم الرواية دفعة واحدة بسرد متدفق سلس، يضع فى اعتباره طول الوقت الحفاظ على قارئه ومساعدته فى الاندماج الكامل مع تفاصيلها وأحداثها، خصوصا أنها تتنقل ببساطة ونعومة بين عالم الأحلام والأساطير فى ذات الوقت الذى تحضر فيه بقوة ظلال من حضارات قديمة (المايا والإنكا)، وومضات زمنية فى فضاءات متباعدة (فرنسا الملكية فى القرن الثامن عشر، سيوة المصرية، غابات نائية وقمم جبال فى كندا) فضلا عن استدعاءات «علمية» و«تاريخية» و«ميثولوجية» مدمجة فى النص بقدر كبير من الإحكام والربط.
يحتفظ علام بالقدر اللازم من التشويق الذى يحافظ به على قارئه دون أن ينزلق إلى فخ الرخص والابتذال الذى يستهوى عشرات ممن يطلقون على أنفسهم لقب «روائيين»! وستلفتك هذه المعرفة العميقة بدهاليز ودروب التحليل النفسى وبعض العلوم الحديثة وتواريخ الحضارات القديمة التى سيوظفها الروائى ببراعة ودون أن يبدو من استدعائها تكلف أو افتعال أو استعراض كما يحلو لكثيرين الآن (بعضهم يفهم مثلا الرواية التاريخية بأنها استدعاء لحقبة من التاريخ وحشد المعلومات والوقائع وتزيينها بحكاية أو اثنتين وكان الله بالسر عليم، ثم يقول لك صاحبها هذه رواية تاريخية!!).
علام سارد بارع، موهوب، يمتلك قدرة ممتازة على التصوير والوصف، يمنحك حياة كاملة متكاملة الأركان لفضاءات روايته ويحكم قبضته جيدا على خيوط السرد ليصل بك إلى مرفأ النهاية وأنت مبهور الأنفاس من هذه «الرواية/ الرحلة» العجيبة والمدهشة معا.
ربما كانت ملاحظتى الوحيدة أن نهايتى الرواية «نعم. لها نهايتان» قد توقع البعض فى التباس «سيزول بالتأكيد مع السطر الأخير»، لكن ظل هناك إحساس داخلى بأن النهاية الأولى على الأقل التى سيكتشف فيها المدنى خلاصه بغياب حبيبته الكندية السمراء كانت فى حاجة إلى قدر من الإشباع والتفصيل، قد تبدو الإنارة المفاجئة مبهرة للعين للدرجة التى يلزمها بعض الوقت لاستيعاب الضوء واستعادة تفاصيل المشهد كاملا.
فى ظنى، نجح أسامة علام فى أن يكتب رواية جميلة توفر لها من المتعة والتشويق قدر ما لها من عمق فى الرؤية وطرح السؤال حول قضايا إنسانية عامة، وانشغال محموم بفكرة الغربة والتكيف مع الهجرة والبحث عن سؤال الاندماج والتعايش كمواطنين كاملى المواطنة دون تمييز أو تمايز.
وكذلك البحث عن ملاذات إنسانية وروحية «حقيقية»، قبل أن تكون الهجرة مجرد انتقال إلى أراضٍ شاسعة وأوطان متقدمة وجنسيات يشقى المرء عمرا وجهدا للظفر بها، وجوازات سفر خضراء وزرقاء وحمراء تمنح أصحابها مزايا عينية ومعنوية، وفى سبيل ذلك كله تأتى المراجعة وخوض الرحلة وطرح السؤال، والتوسل بعبقرية الفن ومكر الرواية، لبث كل هذه الهموم والشجون دون الانزلاق إلى فخ المباشرة والسطحية.