قبلة حياة للسلطوية!
أحمد عبدربه
آخر تحديث:
السبت 17 مارس 2018 - 9:45 م
بتوقيت القاهرة
تجرى فى هذه الأثناء الانتخابات الرئاسية المصرية وهى التى كنت قد وصفتها فى مقالة سابقة نشرت بتاريخ ١٣ أغسطس فى هذه المساحة بأنها أقرب إلى «الاستفتاء» منها إلى الانتخابات، وهو ما عبر عنه بالفعل الرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى بوضوح فى خطابه بتاريخ ١٤ مارس الحالى حينما طالب المصريين بالنزول بغض النظر عن اتجاه تصويتهم ولكنه وبدلا من استخدام لفظتى «مع» و «ضد»، فقد استخدم لفظتى «نعم»
و«لا» وكررها أكثر من مرة فى إشارة واضحة إلى حقيقة الأمر!
وبالرغم من حالة الصدمة والغضب التى تنتاب مؤيدى الديموقراطية فى مصر (ومنهم كاتب هذه السطور) من المشهد الانتخابى المصرى، إلا أن فهم الحالة المصرية فى إطار أوسع لفهم حالة الديموقراطية حول العالم قد يكون مساعدا على فهم أين نحن وإلى أين نذهب وكيف نحسن شروط اللعبة أو النضال من أجل الديمقراطية كما أشار الأستاذ الدكتور إبراهيم عوض فى مقاله الأخير وهو ما أحاول الاجتهاد فيه فى هذه السلسلة عن الديموقراطية والسلطوية.
الحقيقة أن تصاعد السلطويات فى مصر والدول العربية ليس فقط قاصرا على منطقة هى بطبيعتها مأزومة ديموقراطيا، ففى إطار تراجع الديموقراطية عالميا لاحظت مؤسسة «فريدوم هوس» أنه منذ بداية عمل الأخيرة فى العام ١٩٧٢ فقد أخذت الديموقراطية فى التصاعد قبل أن تشهد بعض التراجعات مع بداية الألفية الثالثة ثم انتكاسات منذ منتصف العقد الأول للألفية. شملت التراجعات العديد من دول الموجة الثالثة وتوابعها مثل المكسيك وأوكرانيا والمجر وبلغاريا والسنغال ومدغشقر وتنزانيا وتركيا وتايلند وباكستان وإندونيسيا وماليزيا والإكوادور وجواتيمالا وبارجواى وكولمبيا وبيرو وهندوراس ونيكاراجوا!
كما ذكرت فى مقال الأسبوع الماضى، فقد كان انهيار الاتحاد السوفيتى وانتشار الموجة الثالثة للديموقراطية قبلة حياة للسلطوية، فقد بدت الكتلة الغربية منتشية بانتصارها بقوة وعبرت عن ذلك بعض الكتابات الأكاديمية التى أخذت شهرة عالمية فى ذلك الوقت مثل كتابات صامويل هانتجنتون وفرانسيس فوكوياما، وفى حين رأى الأخير أن انهيار الكتلة الشرقية تمثل انتهاء التطور التاريخى للأيديولوجيات بإعلان انتصار ساحق ونهائى للديموقراطية وقيمها الليبرالية، رأى الأول أن هذا الصراع لن ينتهى وأن موجة أخرى من الصراعات العالمية سوف تنتشر على أسس حضارية ثقافية وخصوصا بين الحضارات الغربية ونظرياتها الصينية والإسلامية.
بعد ربع قرن من هذه الكتابات، يتضح أن هانتجنتون ربما كان أكثر دقة فى التوقع، وأن فوكوياما ربما كان أكثر اندفاعا فى توقعاته منتشيا بانتصار اللحظة. الآن ونحن على وشك إنهاء العقد الثانى من الألفية الثالثة، فإنه لم يحدث انتصار لقيم الديموقراطية الليبرالية بل هى فى تراجع مستمر! لكن لماذا حدث هذا التراجع رغم انهيار السلطويات الشيوعية؟
***
بقراءة أهم المحطات التاريخية منذ ١٩٩٠ وحتى اللحظة، تبدو بعض الأمور أكثر وضوحا فى تفسير هذا التراجع الديموقراطى وتصاعد السلطويات العالمية. يمكن هنا رصد خمس محطات متداخلة زماننا ومكاننا لرصد هذا التوجه:
المحطة الأولى تتمثل فى أن الدول الغربية بذلت كل جهودها خلال الفترة التالية ل ١٩٩٠ فى تعضيد الرأسمالية عالميا لا الديموقراطية. نعم انتشرت النظم الديموقراطية بعد انهيار الاتحاد السوفيتى لكن لم يكن هناك أدنى اهتمام بدعمها أو تعضيدها، وعلى العكس من ذلك كان الاهتمام بنشر قيم الرأسمالية، لدرجة أن مفهوم الليبرالية بحسب فهم كثيرين أصبح يشير خلال الربع قرن الأخير إلى الانحياز لقيم السوق الحر، لا الانحياز لقيم التعددية والمؤسسية والتمثيل والتوازن والرقابة التى قامت عليها النظم الغربية! كانت اجتماعات رءوس الدول العظمى فى العالم سواء فى مجموعة السبعة الكبار (لاحقا الثمانية)، أو فى مؤتمرات دافوس الشهيرة أو فى المنظمات الإقليمية مثل منتدى التعاون الاقتصادى لدول آسيا والمحيط الهادى كلها حول الترتيبات الاقتصادية الدولية بما فيها التنسيق مع الدول السلطوية طالما كانت رأسمالية! وهكذا انشغل العالم الغربى (رسميا) عن موضوع الديموقراطية بالترتيبات الرأسمالية والأمنية!
المحطة الثانية وهى قطعا مرتبطة بالمحطة الأولى، تتمثل فى أن الدول حديثة العهد بالتحول الديموقراطى فى آسيا وشرق أوروبا قد ركزت نخبها الصاعدة على التمكين الاقتصادى سواء عبر التحالف مع الشبكات الرأسمالية داخليا أو إقليميا ودوليا وأصبح من شروط اللعبة الديموقراطية فى دول الموجة الثالثة هو التمكين المالى لا الأيديولوجى أو السياسى مما عزز سيطرة النخب الرأسمالية على عملية صنع القرار وأصبح نجاح السياسى والحزبى مرتبط بقدرته على التربيطات مع شبكات المال والأعمال وجلب بعض المكاسب المالية للدوائر الانتخابية فضلا عن جلب الرعاية المالية للحزب.
أما المحطة الثالثة فهى أن هذه الهيمنة الرأسمالية على عملية صنع القرار قد حدثت داخل دول الموجة الأولى (أوروبا الغربية) نفسها! فأصبح السياسى يقضى معظم وقته مع جماعات الضغط والمصالح لا مع جمهور الناخبين، وعوضا عن ذلك أصبح التواصل مع الناخبين موسميا ( خلال مواسم الانتخابات) من خلال استخدام مكثف لشركات الدعاية والتسويق السياسى ومن هنا فقد التواصل السياسى مع الناخبين أهميته وتم تسليعه وتنميطه ومن ثم أيضا تضاءل الاختلاف بين الأحزاب السياسية يمينا ويسارا وفقدت الديموقراطية الليبرالية جوهرها وتحولت إلى مراسم دون مضمون!
المحطة الرابعة تمثلت فى تصاعد المكونات الأمنية والعسكرية فى عملية صناع القرار للدول الغربية على خلفية ارتفاع المخاوف الأمنية بعد انتشار الجماعات الإرهابية والمسلحة عبر العالم من ناحية وعلى خلفية تصاعد المغامرات العسكرية الغربية فى الشرق الأوسط من ناحية ثانية، ومن هنا أصبح البيزنس العسكرى واحد من أهم محركات صنع القرار داخليا وخارجيا فى الدول الغربية ولاسيما بعد أحداث ١١ سبتمبر والتى كانت بمثابة الضوء الأخضر لسيطرة جماعات ضغط تجارة السلاح وهيمنتها على السياسيين وكانت التدخلات العسكرية الأمريكية فى أفغانستان والعراق خير شاهد على ذلك.
ومن الملفت للنظر هنا، أنه وعلى الرغم من اعتماد الرئيس الأمريكى جورج بوش لبرامج دعم الديموقراطية وخصوصا فى مناطق الشرق الأوسط ووسط آسيا، إلا أن هذه البرامج جميعا قد باءت بالفشل ولم تتمكن من تغيير المعادلات السلطوية فى المنطقتين، فبالإضافة لفشل الديموقراطية فى العراق وأفغانستان وباكستان، فلم تنجح هذه البرامج (ومن ضمنها أيضا برامج دعم الديموقراطية لدول الاتحاد الأوروبى) فى تغيير الكثير فى دول أخرى مثل مصر وسوريا والأردن وليبيا واليمن، ورغم أن البعض بالفعل كان يعزى ثورات الربيع العربى إلى هذه البرامج، فإنه وباستثناء الحالة التونسية الهشة، فقد انقلبت التحولات الديموقراطية والحراك الشعبى فى اليمن وسوريا وليبيا إلى حروب أهلية، بينما جاء رد الفعل العكسى فى الحالة المصرية ليدفع النظام المصرى بعيدا حتى عن النقطة التى كان يقف عندها فى نهاية عام ٢٠١٠!
ثم كانت المحطة الخامسة التى دفعت الديموقراطيات إلى تراجع هى صراعات الهوية. فعلى خلفية مشاكل المهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين ثم لاحقا اللاجئين بدت شعوب الدول الغربية فى أزمة هوية كبرى مما دفع العديد من الناخبين الغربيين للتصويت للأحزاب اليمينية ودفع أيضا الشعبوية إلى التصاعد على حساب المؤسسية، هذه الشعبوية تشددت فى ادعاء الدفاع عن الهويات «النقية» لشعوب الدول الغربية مدعومة بشركات دعاية متخصصة استخدمت علم النفس السياسى لمخاطبة الناخبين المأزومين هوياتيا مما دفع السلطوية إلى التصاعد التدريجى على حساب الديموقراطية.
***
وهكذا فقد كانت المحطات الخمس سالفة الذكر كافية لتراجع الديموقراطية عالميا لحساب النظم السلطوية، والملاحظ أن هذه الأخيرة شاركت نظيراتها الديموقراطية الأجندة الرأسمالية والتى كانت كفيلة لتنسيق ومفاوضات بين الدول الديموقراطية والسلطوية على نفس المائدة السياسية وهو منحى آخر لا يمكن تجاهله فى تفسير تراجع الديموقراطية عالميا، لكن كيف تمكنت السلطويات من تعضيد وضعها واستغلال هذه التراجعات الديموقراطية؟ أحاول الإجابة عن هذا السؤال فى مقال قادم.
ملحوظة: جميع أفكار هذه المقالة والتحليل الوارد فيها هى من اجتهاد الكاتب باستثناء الفقرة الثالثة والتى اعتمد فيها الكاتب على ما ورد فى كتاب حمل عنوان «ديموقراطيات فى تراجع...» صدر عن دار نشر جامعة ييل فى العام ٢٠١٣ للكاتب جوشوا كورلانزيج.