عولمة الكوابيس
سيد محمود
آخر تحديث:
الثلاثاء 17 مارس 2020 - 9:55 م
بتوقيت القاهرة
بسبب محاولة السيطرة على الكورونا تتحول حياتنا تدريجيا إلى كابوس مفزع يدفع الجميع لمراجعة حساباته وشكل نظرته إلى العالم وإلى ذاته.
ولعلها المرة الأولى التى يشعر فيها قراء أدب نهاية العالم وروايات الديستوبيا أنهم لم يعودوا مجرد قراء فقد صاروا أبطال مشهد روائى ممتد لا نعرف من سيكتب نهايته.
فى هذه الأوقات التى تبدو (العزلة) قانونها الوحيد يتململ الجميع من محاورة الملل ويتحايلون على دوافع الجلوس فى المنزل أمام الشاشات، يعيد أفراد العائلة اكتشاف المسافات بينهم وربما الملامح التى تغيرت ومعها العادات دون أن ينتبه أحد.
ومع أول (تهنيجة) لشبكة الإنترنت وخدمة (واى فاى) يتبادلون النظرات والابتسام وتبدأ عملية البحث عن موضوع مشترك يلم الشمل من جديد، يحاول الجميع اكتشاف (شهد العزلة) وتجنب مرارات مواجهة (الكابوس).
يجرب أفراد العائلة الاستماع إلى أغنية يعرفونها جميعا فيكتشفون أن لكل واحد قائمة تختلف عن خيارات الآخر، وأن البيت يفتقر إلى أغنية تحقق هذا الإجماع المفتقد، ويكتشف الأب وحده أن جيل الأبناء ضد ثقافة الإجماع، ويقاومون هذا الاصطفاف خلف الصوت الواحد سواء كان يقدم الأغنية أو البيان السياسى.
حتى الكتب التى تملأ البيت نكتشف لاحقا أنها لا تصلح للقضاء على الشعور بالخوف وأن روايات الديستوبيا التى نعرفها كانت أقل وطأة مما نعيشه الآن؛ حيث كان خيال أصحابها فقيرا للحد الذى لم يسمح أبدا بتخيل مطارات فارغة ومدن بكاملها مرصعة بسيارات الأمن التى تطارد أشباح بشر يحاولون التعايش مع (الفاجعة).
بل إن رواية عظيمة مثل (مئة عام من العزلة) لماركيز لا تصمد أمام لحظة التفكير فى أننا قد نعيش عاما واحدا من العزلة.
فى تلك الهدنة العائلية التى تبدو مثل الوقت المستقطع، يلخص أكثر الحاضرين نشاطا على مواقع التواصل الاجتماعى ما يقرأه بشأن تطورات المرض وتريد الابنة الصغرى تفادى هذا الموضوع المفزع مثلها مثل الأم المنهكة فى استعمال أدوات التطهير التى تطغى روائحها على روائح البيت المعتادة لكن ما باليد حيلة! هكذا يقول الأب الذى يتابع أرقام المشتبه فيهم ويخفى الأرقام التى تشير إلى ارتفاع أعداد الضحايا ومع الجميع يتوقف أمام السؤال: ماذا بعد؟
لا أحد يملك إجابة!
وحدها مشاهد إغلاق المطارات تشبه شارة عالمية للحزن، مشاهد تليق بالحرب وحدها؛ لذلك لم يكن غريبا أن يغنى الإيطاليون الأغانى ذاتها التى قاوموا بها الفاشية أو يستعيد الألمان المراثى التى ودعوا بها شهداء الحرب العالمية الثانية بحثا عن طريق للمقاومة.
هل نتوقع مقابر جماعية فى الأيام المقبلة أم نلحق بقطار الأمل الذى أعاد الصينيون تشغيله؟
لا أحد يعرف أكثر من حاجته إلى الأمان الشخصى، لأن كل ما عاشه بات موضع شك
فى الماضى؛ حيث كان العلم محدودا كان يمكن أن نقبل المعلومة التى تقول إن الإسكندر الأكبر مات بسبب بعوضة، ومهما كانت الحجة ضعيفة إلا أن الفكرة ذاتها مقبولة لكن كيف لى أن أشرح لابنى وأنا أطالبه بغسل يديه وتعقيمها طوال اليوم أن وزير الصحة فى بلد كبير ومتقدم يعانى من (كورونا) الذى وصل إلى وزراء وحاصر رؤساء جمهوريات فى بلدان كانت تململ من الرفاهية؟
تأتى (الكورونا) لتقول إن ما نعيشه ليس أكثر من (عولمة للكوابيس) لأن انتشار المرض بهذه السرعة فى جوهره هزيمة مؤكدة لفكرة العولمة ذاتها، فلم يعد العالم مطمئنا لحرية انتقال البشر والأفكار والأموال التى كانت المحرك الرئيسى للفكرة التى خلقتها الرأسمالية لتبرر توسعها الأخير، من كان يصدق أن الاتحاد الأوروبى سيغلق حدوده قريبا وأن تأشيرة (شنجن) على جواز السفر لم تعد موضع فخر بل أصبحت دليل شك واتهام.
وداخليا تذكر الأزمة التى نأمل فى تجاوزها بفضل التضامن الإنسانى بضرورة التوسع فى مد شبكات التأمين الصحى والاستثمار الحكومى فى هذا القطاع بصفته أحد ضمانات النجاة ولنا فى كتاب (ساعة عدل واحدة) أسوة حسنة، فهذا الكتاب الذى كتبه طبيب إنجليزى هو سيسيل البورت وترجمه سمير محفوظ بشير (كتاب الهلال) عمل بمصر بين عامى 1937 و1943 رأى بطريقة مباشرة ما يتعرض له الفقراء لأجل العلاج.
وهذا هو مربط الفرس، فالخوف كل الخوف أن يحصد المرض أرواح الفقراء المحاصرين أكثر من أى وقت مضى لأن أغلبهم سيعانى من البطالة ومن انعدام فرص العمل؛ حيث يصنف معظمهم فى إطار العمالة اليومية غير المنتظمة التى ستدفع أثمان الإجراءات الاحترازية التى تأمل فى الحد من انتشار المرض وإلى جوار هؤلاء من الواجب التفكير فى تحسين أوضاع الأطباء وطواقم التمريض وكل العاملين فى القطاع الصحى لأن هؤلاء وحدهم الذين ينوبون عن الجميع فى التقدم إلى طوابير الخوف.