فتش وابحث فى الصورة
أهداف سويف
آخر تحديث:
الأربعاء 18 أبريل 2012 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
بجد حاجة غريبة.. الشعب المصرى يعمل ثورة يبهر بها نفسه والعالم، ثم يدخل (من يفترض أنهم) قياداته المختلفة إلى المسرح فيستعرضون طيفا من التصرفات السيئة، تبدأ من الإجرامى (المذابح المختلفة)، وتنتهى إلى الهزلى (أنف النائب وقصة غرامه أو ترشيح الحزب الأكبر لرئيس محتمل «احتياطى»)، فيكَرَّهوا الشعب فى عيشته ويضعوا العالم فى حيرة من أمرنا.. هل نحن أمة تتمتع بأرقى درجات التحضر؟ أم نحن أمة من القتلة والقراجوزات والمغفلين؟
قيادات العهد المنصرم ورثت بلدا فيه شعب عريق أصيل متنوع صبور ذكى، وفيه بَدَل البحر بحران وبحيرات ونيل، وشمس وهوا وموقع متميز فى وسط العالم، وخضرة وصحراء وملاحات وجبال ووديان، وآثار وحفريات وعجائب أشكال ألوان، ولهذا الشعب تراث وفلسفة وأدب وأغان وأفلام، وله أيضا مناجم دهب وفوسفات وفيروز، وشوية بترول وغاز .. وجدت نفسها راعية لكل هذا، فماذا فعلت؟ ظلت تهَزَّأ فى الشعب وتجوعه وتبهدلة وتقَتِّله وتطفشه وتبيع فى ورثه واللى ماتقدرش تبيعه تهمله أو تخربه.
هل نرى فى قياداتنا الجديدة ما يدل على انها ستفعل غير ذلك؟ هل نتوسم فيها أى شعور بكرامة هذا الشعب، وبأنه صاحب البلد أصلا، ومن حقه أكثر كثير من كيس رز وقزازة زيت لقاء بصمة على كشف انتخاب؟ وهل تتصور هذه القيادات ان الشعب سوف يكِنّ ويسكت بعد ما قام به؟ يعنى فعلا فعلا الناس دى فاكرة ان احنا عُبطا، ان الشعب عبيط. وهناك فرق ضخم بين ان الواحد يبقى عبيط، وبين انه يبقى بيستعبط شوية علشان يدّى اللى قدامه فرصة إنه يرجع للحق والصواب وهذا ما يفعله القطاع الصامت من الشعب الآن.
بعض مما رأيته فى الأسبوع الماضى:
●الحاجة صاحبة المشتل، عندها 75 سنة، قالت لى ان سبب ذبول إحدى عينيها هو الفِكر. قالت: السن لا يهم، هو الفكر الذى يذبل العيون. بنتها، بدرية، ماتت عروسة عندها 23 سنة، ماتت فى المستشفى بعد عملية فى القلب. الحاجة نفسها كانت وقتها أرملة من 10 سنين. تبقى لها ابنها، كان عنده 17 سنة. شغَّلت رجالة فى المشتل وربت ابنها وجوزته وتقول عليه «الباشا» لإنه عمره ما زعلها. فى المستشفى قالوا لها عينك عايزة 12 ألف جنيه. بس بيدوها علاج. الدكتورة تكتبلها قزازتين قطرة وفى صيدلية المستشفى يدوها واحدة بس ويقولولها جيبى من برة. من فترة الناس طَمَّعت رئيس المركز فى طريق يربط المركز بالطريق العمومى يمشى عليه بسيارته ويستوجب الاستيلاء على جزء من أرضها. رفضت البيع. قبضوا على ابنها الباشا بتهمة مخالفة مبان وحجزوه. بقت طول ابنى، ابنى اللى كنت باضلل عليه بجلابيتى مقعدينه مع بتوع المخدرات. راحت المركز ودعت عليهم، وكان فيه زق وبهدلة واتعَرِّت بس اتعَرِّت بقيمتها وراسها مرفوعة وهى بتدعى عليهم عشان ابنها. سابوا ابنها بعد ٤ أيام لكن ربنا لا يخيب لها دعاء ومافاتش أسبوعين والثورة قامت وبقوا الشباب يولعوا فى عربيات الضباط بس النار كانت هتمسك فى الشجر، والشجر زى ابنها فمسكت الخرطوم وبقت ترش ع الشجر وتدعى وتحمد ربنا.
● الأسطى صاحب ورشة النجارة الصغيرة جدا، يعمل أمامها فى الحارة، ويصنع كنبا وترابيزات وسراير ودواليب زى الفل. يدعونى لأن أملس على الخشب لأشعر بنعومته، ولأن أنظر جيدا لأرى التركيب العاشق والمعشوق بدون مسامير. حصلت له حادثة من سنة وفقد صباع ونصف من إيده الشمال، وكمان الإيد بقت متخشبة ومافيهاش مرونة. وكمان بتؤلمه. قالوله انت عايز عملية بـ٣٥ ألف جنيه. قعد 3 شهور مايشتغلش فزوجته وضعت نصبة فى الحارة تبيع عليها بسكوت. لما قدر ينزل الشغل نزل، ودلوقتى بيشتغل، وشغله برضه زى الفل بس إيده الشمال بيسند بيها بس والشغل كله فى اليمين. الحمد لله. بس هو مين اللى هيمسك البلد؟ يعنى المجلس مستهتر بينا يجيب لنا عمر سليمان والجماعة ماعدناش نصدقهم.
● الست صاحبة محل البقالة الصغير والست صاحبة محل الأدوات المنزلية والشاب العامل فى محل الموبايلات، كل على حدة، يقولون: تعالى بس اقعدى ع الكرسى ده وقوليلى: هو ينفع كده؟ يعنى أنا من الناس انتخبتهم بس انا كنت فاكرهم يعرفوا ربنا. الطمع ماينفعش، ماينفعش الواحد يبقى عايز ياخد كل حاجة. وبعدين أنا بقيت باشك فى صدقهم خلاص. طب أنا باقول: أنا كنت باشجع المجلس العسكرى وازعل قوى لما يهتفوا ضده، بس ماينفعش كده، ماينفعش يتوهوا البلد بالمنظر ده. ما تلموا على بعض بقى وتشوفولنا حد نعرف نجيبه..
طبعا مش دول الناس اللى الإعلام شايفهم واللى المراسلين الأجانب بيكتبوا عنهم. ومش دول الناس اللى القيادات عاملة حسابهم وبتتكلم معاهم.
كانت إحدى ألعابى (الورقية) المفضلة، فى الطفولة، الصورة التى بها تفاصيل كثيرة وهناك تفصيلة مختبئة عليك أن تبحث عنها. من الصعب رؤيتها فعلا، لكنك حين تجدها تتبدى لك واضحة جلية فتعجب كيف لم ترها من قبل؟ «آدى القطة، آدى البطة، آدى البنت المسحورة. فتش وابحث فى الصورة، يمكن تلاقى المسحورة!» هذا الشعب الساكن المستتر المراقب المنتظر هو البنت المسحورة.. تنظر القيادات فى الصورة فلا تراه، أما من يرونه حقا فهُم الشباب.
أيضا هذا الأسبوع التقيت شبابا فى الاسكندرية، مجموعة فى «الكابينة» فى محطة الرمل، ومجموعة (متداخلة) فى «الصندرة» فى جاناكليس. شباب رائع.. فاهم ونشط ومتدفق ومش مستنى حد يجيبله تمويل ولا أفكار ولا أى حاجة. شباب بتجيله الفكرة فينفذها، ياخد مقر يصرف عليه من جيبه ويشتغل مع بعضه ومع الناس وللناس، منفتح للتجربة وللغة ولنوع النشاط ولتشكيلة الناس. يعمل فى تقاطع العمل الثقافى والاجتماعى والسياسى والشعبى. يعمل لأنه يريد أن يعمل، ولأنه، بهذا العمل يتطور هو أيضا ويجد أو يبتكر طرقا جديدة له. جدران مرسومة وكاميرات وكتب ودفء وحماس وكرم. يطلقون الأفكار وأى حد عايز ياخدها يشتغل بيها خير وبركة.. فهذا الحراك هو الحراك المطلوب. أكاد أوقن أن شبابا كهؤلاء موجودون بالفعل ويعملون فى أرجاء مصر. هذا هو العمل الحقيقى.. العمل على الأرض، خلق كيانات ومجموعات وشبكات وأعمال.. خلق مناخ.
فبصرف النظر عن القيادات، التى أثبتت على كل حال أنها زائلة، أنا شخصيا رهانى على الناس، على البنت المسحورة، وعلى الشباب المتعرف عليها والعارف لها.