فى مقالين سابقين بيّنّا الأهمية القصوى لتوعية شباب وشابات الأمة بالمخارج المفصلية للخروج من الوضع العربى المأساوى الحالى. ومع أن هناك أحداثًا كبرى تحدث الآن فى الوطن العربى وتحتاج إلى الكتابة عنها، إلا أنى أشعر بأن كثرا من أخواتى وإخوانى الكتاب العرب يتعاملون معها يوميا، تحليلا واستنتاجا بالغ الأهمية، بينما ننسى أن مواجهة كل ذلك سيكون على يد الجيل الشاب المستقبلى.
ولأن الأمر كذلك يحتاج بعضنا أن يساهم فى إعداد هذا الجيل فهما وتحليلا وفكرا، حتى يصبح الجيل الجديد مهيّئا للنضال السياسى المستقبلى الذى يجب أن يمارسوه، هذا إن أرادوا كسر الحلقة المفرغة السياسية التى تدور فيها كل أجزاء وطنهم العربى الكبير. فى المقالين السابقين بيّنا أن النضال من أجل قيام خطوات نحو نوع من التناغم والتعاون الوحدوى العربى، والنضال من أجل التوجه، حتى ولو كان تدريجيا، تجاه انتقال المجتمعات العربية إلى بناء وممارسة الديموقراطية السياسية والاقتصادية والاجتماعية العادلة.. النضال فى سبيل الشّعارين أصبح من صلب المشروع النهضوى العربى، بل وفى قمّته وأولوياته.
اليوم نريد القيام بالتوعية لمخرج ثالث يطرحه المشروع النهضوى، ألا وهو العدالة الاجتماعية وهو شعار استبدل به أصحاب هذا المشروع النهضوى شعار الاشتراكية العربية الذى رفعته كل الحركات والأحزاب القومية العروبية ابتداء من الأربعينيات من القرن الماضى. ومع الأسف، ولأسباب كثيرة معقدة، فشلت كل محاولات تطبيق الاشتراكية العربية فى العديد من الأقطار العربية، ولينتهى كل الوطن العربى إلى تبنّى فلسفة ومبادئ وسلوكيات وتطبيقات النيوليبرالية الرأسمالية العولمية المتوحشة التى فرضتها بعض القوى الاستعمارية على العالم كله.
واليوم يعيش الوطن العربى كل فواجع وأخطاء وخطايا التبنّى التابع للنيوليبرالية الرأسمالية الجديدة. وإذا كان العديد من الفلاسفة قد شدّدوا على أن العدالة هى أهم جزء وأكثر قدسية فى المكونات الأخلاقية، فإن العدالة الاجتماعية تقبع فى قلب تلك العدالة المطلقة الأخلاقية.
ولذلك فإن تبنّى هذا الشعار هو الجواب على ما أوصلتنا إليه الرأسمالية النيوليبرالية من اقتصاد غير عادل يتميز بتشوهات هائلة فى توزيع الثروة، وغنى فاحش فى يد أقلية، وفقر مدقع عند أغلبية متزايدة، وأزمات مالية لا تنتهى، وتلاشى تدريجى للطبقة الوسطى.
وهى التى قادت إلى الانتقال من دولة الرعاية والتكافل الاجتماعيين إلى دولة الخصخصة لكل خدمة عامة، وإلى تمجيد لم يعرف مثيلا له للفردانية الأنانية الاستهلاكية التى لا تشبع.
والنتيجة هو وصول المجتمعات إلى تسليع كل شىء وكل جهد وكل نشاط إنسانى بشكل مبتذل لا صلة له بالقيم ولا بالأخلاق.
من هنا التوجه فى بعض عواصم حتى أعتى القلاع الرأسمالية الغربية نحو طرح فكرة اقتصاد يجمع فيما بين كفاءة الرأسمالية فى الإنتاج والنشاط وما بين التزامات النظام الاشتراكى الاجتماعية وما يطرحه من عدالة توزيع الثروة. هناك رفض تدريجى للاستقطابات المنغلقة السابقة فى الفكر الاقتصادى.
وبالطبع فإن هذا التوجه مرفوض ومحارب من قبل مجموعة الواحد فى المائة التى تستحوذ على ما يقارب من نصف ثروة هذا العالم، التى تسندها مراكز بحثية مدفوعة الثمن وإعلام منحاز فى أغلبه لمن يعطيه خيرات الإعلان التجارى.
العدالة الاجتماعية، بأبعادها الإنسانية والأخلاقية، تطرح كمخرج ثالث من الوضع البائس العربى الحالى. ولكى تنجح فى تحقيق كل أهدافها ستحتاج إلى المخرجين السابقين: الوحدة العربية التضامنية والديمقراطية الحقيقية الصادقة.
أى تنظيم مجتمعى مدنى يحارب هذه المخارج أو يبتعد عنها يحتاج شابات وشباب الأمة أن يضعوا علامات استفهام كثيرة من حوله، وعلى الأخص بشأن ما يخفيه.