حملت زيارة البابا فرنسيس الأولى لمصر أكثر من دلالة تستدعى منا التوقف والتأمل والنظر فيها، وذلك على أكثر من صعيد. ولكننا سوف نكتفى هنا بذكر وتحليل وتقييم دلالتين فقط من تلك الدلالات العديدة والمهمة.
فاختيار بابا الفاتيكان لأن تكون الزيارة لمصر يعنى تأكيدا لتقديره لأهمية مصر ليس فقط فى العالمين العربى والإسلامى أو فى القارة الإفريقية أو فى إطار دول حوض البحر الأبيض المتوسط، ولكنه أيضا اختيار ينم عن وعى عميق وإدراك شامل لدور مصر التاريخى والمستمر فى مجال رفع لواء الحوار فيما بين الأديان والثقافات المختلفة عبر العالم وتحول هذا الدور منذ زمن بعيد إلى أولوية ضمن أولويات سياسة مصر الخارجية وضمن مساعى مصر فى مختلف ساحات العمل الدولى متعدد الأطراف، سواء فى سياق الأمم المتحدة أو منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) أو منتدى دافوس الاقتصادى العالمى أو غيرها. كما أن هذا الدور ليس مجرد سياسة رسمية للدولة أو للحكومات المتعاقبة منذ عقود، بل هو توجه نابض وحى تترجمه المؤسسات الدينية الرئيسية، وفى المقدمة منها بالطبع الأزهر الشريف والبطريركية المرقسية للأقباط الأرثوذكس، إلى نشاط دءوب وعمل لا يكل بهدف أن يكون حوار الأديان له نتائج فعالة على أرض الواقع ولكى لا يتحول إلى مجرد مناسبة مراسمية أو فرصة لالتقاط الصور ثم تنفض جلسات الحوار دون نتيجة موضوعية حقيقية وملموسة تشعر بها النخب من الساسة والمثقفين ورجال الأعمال والجامعات ومراكز الأبحاث والمنظمات الأهلية، بنفس القدر الذى يشعر بها المواطن العادى، بل الإنسان العادى، فى كل بقاع الأرض، وأيا كانت عقيدته أو هويته أو انتماؤه.
وكان من النتائج العملية المهمة، من وجهة نظرى، التى تمخضت عنها زيارة البابا فرنسيس للقاهرة إحياء الحوار بين الفاتيكان والأزهر الشريف عبر الاتفاق على آليات محددة لتحقيق ذلك، وذلك بعد ما مر به هذا الحوار من فترة جمود، خاصة فى عهد بابا الفاتيكان السابق بنديكت السادس عشر، والذى أخذ عليه تبنيه لمواقف عدائية تجاه الإسلام ورسوله الكريم عليه الصلاة والسلام من جهة وحرصه فى أكثر من مناسبة على الربط بين الإسلام والعنف من جهة أخرى. ولا يكاد يوجد شك فى أن النهج الجديد الذى اتبعه البابا فرنسيس، وتبدى بوضوح خلال زيارته لمصر تجاه كل من الأزهر الشريف والبطريركية المرقسية، يصب لصالح الحوار الإيجابى والفعال والمثمر فيما بين مختلف الأديان والثقافات، بل والحوار داخل الأديان ذاتها على الصعيد العالمى، وأيضا لصالح الجهود الحثيثة من جانب الأطراف المعنية، أى الفاتيكان والأزهر الشريف والبطريركية المرقسية، للترويج لقيم التسامح والاحترام المتبادل ودرء الترويج للكراهية أو التحريض على «الآخر»، أو الحض من شأنه وتحقيره، أو ربط العنف والإرهاب بدين أو عقيدة بالذات دون الغوص فى جذور هذا العنف والإرهاب أو فى تعدد انتماءات الأطراف القائمة به. ونذكر هنا أن الأزهر الشريف والبطريركية المرقسية هما منغمسان بالفعل منذ سنوات طويلة فى حوار مع العديد من الكنائس البروتستانتية عبر العالم، خاصة الغربية منها، وذلك عبر قناة «مجلس الكنائس العالمى» بجنيف.
أما الدلالة الثانية التى نتناولها هنا لزيارة البابا فرنسيس لمصر أخيرا فهى أهمية الزيارة المنبثقة عن أهمية الضيف الزائر وتفرده وخصوصية دوره وأفكاره وشخصيته. فالحبر الأعظم هو صاحب العديد من المواقف المعلنة والتى يشكل كل منها علامة بارزة فى تاريخ الفاتيكان ودورها الدعوى العالمى. وليس المقصود هنا هو فاعلية دور الفاتيكان على صعيد العلاقات الدولية، فالبابا الأسبق الراحل يوحنا بولس الثانى على سبيل المثال كان شديد الديناميكية والحراك والنشاط على الصعيد الدولى، ولكن ذلك جاء فى نهاية المطاف لصالح معسكر ضد الآخر فى الحرب الباردة، وتحديدا كان يرى دوره باعتباره يقود حربا، كان يصفها بـ«المقدسة»، ضد الشيوعية العالمية بقيادة الاتحاد السوفيتى السابق فى ذلك الوقت وحلفائها على الصعيد العالمى. كما جاء تبنى البابا الأسبق يوحنا بولس الثانى لمواقف دينية واجتماعية تتسم بالمحافظة وتبتعد عن الاتسام بالتقدمية ليناهض توجهات داخل الكنيسة الكاثوليكية كانت قد بدأت تظهر بشكل خاص فى العديد من بلدان أمريكا اللاتينية منذ فترات ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تحت مسمى «لاهوت التحرير» وهى صاحبة مواقف تقدمية تؤكد أن الرسالة السامية للديانة المسيحية هى تحقيق العدالة الاجتماعية بين صفوف البشر، وتفرع عن هذه التوجهات «لاهوت الأرض» و«لاهوت العدل» وغيرهما، وكان من أبرز رموزها الأسقف السلفادورى الشهير الراحل «أوسكار روميرو» الذى اغتالته عصابات الموت اليمينية فى 13 مارس 1980، وهو اليوم الذى أعلنته الأمم المتحدة منذ سنوات قليلة «يوما للحق» على الصعيد العالمى إحياء لذكرى الاسقف الراحل.
وبالمقابل، فإن مواقف البابا الحالى لا تتصف فقط بالديناميكية عالميا، بل تكتسب بوضوح صفة التقدمية. وربما يكون ذلك طبيعيا فى ضوء كونه فى الأصل أسقفا من الأرجنتين أحد البلدان المحورية فى أمريكا اللاتينية، عايش «لاهوت التحرير» عبر مراحله المختلفة، وتأثر به بدرجة أو أخرى. فالبابا الحالى ينحاز بوضوح للفقراء والمهمشين والمحرومين، سواء داخل السياق الكاثوليكى أو خارجه، وسواء على مستوى الأفراد أو الشعوب. كما أنه وعلى نفس الخلفية دعا البابا إلى تبنى سياسات منفتحة على موجات الهجرة إلى أوروبا، خاصة من مناطق نزاع فى الشرق الأوسط وإفريقيا فى الفترة الماضية، مما جعله قريبا جدا من مواقع القوى الليبرالية واليسارية فى بلدان أوروبا فى مواقفها إزاء هذه القضية المتصاعدة الأهمية. كما أن لهذا البابا مواقف فعالة ومؤثرة على الساحة الدولية كان منها ترجمته لموقف ثابت للفاتيكان منذ سنوات رافض للعقوبات الأمريكية الأحادية الجانب على كوبا إلى خطوتين عمليتين تمثلت الأولى فى زيارته التاريخية لكوبا، وكانت الثانية أعمق أثرا حيث نجحت وساطته بين الولايات المتحدة الأمريكية فى عهد الرئيس الأمريكى السابق «باراك أوباما» فى حدوث انفراجة تاريخية وغير مسبوقة فى العلاقات الأمريكية الكوبية وهو الأمر الذى توج بالزيارة التاريخية لأوباما إلى هافانا. وبالتالى، فإن لهذا البابا انحيازا واضحا للدول النامية والضعيفة والمهمشة فى النظام الدولى، وهو توجه يصب فى المجمل لصالح لدول المتوسطة والصغيرة فى عالمنا اليوم، ومصر إحدى تلك القوى المتوسطة، والتى تنتصر دائما للقانون الدولى والشرعية الدولية كوسيلة حماية لها، ولبقية الدول العربية والإفريقية، من بطش وأطماع وصراعات بعض القوى الكبرى.
وهكذا عرضنا فيما سبق لرؤيتنا لدلالتين فقط من دلالات عديدة لزيارة بابا الفاتيكان الأخيرة لمصر، من حيث الربط بين هذه الزيارة وبين مواقف وتوجهات البابا ذاته من جهة، وبينها وبين قضايا ملحة على الساحة الدولية من جهة ثانية، وفى المقدمة منها حوار الأديان والثقافات وضرورة إصلاح النظام الدولى لكى يكون أكثر عدلا وإنصافا وتوازنا بما يصب لصالح استعادة البلدان الصغيرة والمتوسطة لحقوقها وللمكانة التى تستحقها على الساحة الدولية، مع إبراز قيمة ووزن وثقل مصر النابع من خصوصية دورها الحضارى ولكونها مرتبطة عبر صور وأشكال متنوعة بالرسالات السماوية المختلفة، خاصة الرسالات الإبراهيمية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام.