أوهام «مناعة القطيع»
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 17 مايو 2021 - 7:05 م
بتوقيت القاهرة
لا سردية علمية يقينية فى زماننا بشأن «كورونا»؛ حتى نظرية «مناعة القطيع»، التى ابتدعها أكاديميون غربيون متوسلين إدراك «الحماية الجماعية» غير المباشرة من الأوبئة، عبر السماح للفئات الأمضى مقاومة لها بمزاولة حياتهم الطبيعية، والتعرض للإصابة بالعدوى توطئة لاكتساب الحصانة المرجوة. الأمر الذى من شأنه محاصرة الوباء واحتواء تفشيه، وتوفير المناعة للفئات الأكثر قابلية للعدوى، كما تلك التى يستعصى تطعيمها، لضرورات مرضية تتصل بالتفاعلات التحسسية حيال اللقاحات، دونما حاجة لاتخاذ تدابير تقييدية للتفاعلات الاجتماعية، أو فرض الإغلاق التام على الأنشطة الاقتصادية.
على صعيد آخر، فجر زهاء مائة باحث فى العلوم الفيروسية والوبائية مفاجأة مدوية، بعدما وجهوا رسالة مفتوحة عبر دورية «The Lancet» الطبية العالمية قبيل انقضاء العام الماضى، حذروا فيها من أن النظرية التى تدعو إلى السماح بانتشار فيروس «كورونا»، بغير قيود، لتسريع بلوغ الحماية الجماعية، إنما تنطوى على مغالطة خطيرة ولا تستند لأية قرائن علمية. وحذرت الرسالة من الأضرار الجسيمة التى سيتمخض عنها تطبيق تلك النظرية، سواء فيما يخص التدهور الاقتصادى، أو إطالة أمد الجائحة، أو انهيار معظم الأنظمة الصحية حول العالم، بما يودى بأرواح77 مليون إنسان، يمثلون 1% من سكان المعمورة.
وفى السويد، وبعدما قفزت أعداد الإصابات الجديدة بفيروس «كوفيدــ19» إلى معدلات تفوق جيرانها فى شمال أوروبا، اعترف أندرس تيجنيل، كبير خبراء الأوبئة، الذى سبق وروج للسماح بانتشار جزئى للفيروس فى الأماكن العامة، دونما تطبيق لقواعد الإغلاق، حتى يكتسب الناس مناعة ضده تعينهم على محاصرته، بعدم وجود دليل علمى على تمكن مناعة القطيع من إبطاء تفشى الفيروس. بدورها، أكدت دراسة لوكالة الصحة السويدية فى شهر مايو الماضى، إخفاق مناعة القطيع فى مواجهة الفيروس؛ حيث أثبتت أن عدد الأشخاص الذين طوروا مناعة ذاتية ضده كان أقل بكثير مما كان متوقعا، فيما تجاوزت أعداد الوفيات الناجمة عن استشرائه فى البلاد، أضعاف نظيراتها فى البلدان الإسكندنافية الأربعة المجاورة، التى اتخذت تدابير العزل وفرضت إجراءات الإغلاق.
من جانبها، لا ترى منظمة الصحة العالمية فى غير تلقى اللقاحات وسيلة مُثلى لبلوغ «مناعةالقطيع» ضد «كوفيدــ19»، معتبرة تعريض الناس للعدوى، مدعاة لتعاظم الإصابات وتفاقم الوفيات. فبينما تحفز اللقاحات جهاز المناعة لإنتاج البروتينات، أو الأجسام المضادة، التى تكافح الوباء، ثبت علميا أن الأشخاص الذين يتلقون التطعيم يتمتعون بحماية من الإصابة، مع الحيلولة دون نقله إلى الآخرين، مما يقوض سلاسل انتقال العدوى. ورغم أن نسبة السكان الذين يجب تطعيمهم ضد «كوفيدــ19» لإدراك مناعة القطيع لا تزال غير معروفة، تكاد تتوافق غالبية طروحات العلوم الوبائية على أن تحقيق الحماية الجماعية بصورة مأمونة، تضمن وقف انتشار الفيروس والقضاء عليه، إنما يستوجب تجاوز التغطية اللقاحية ما بين 60% و80%، من إجمالى السكان.
بيد أن إدراك تلك الغاية قد يستغرق سنين عددا، تتراكم خلالها الأعباء الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، خصوصا مع التباطؤ، أو بالأحرى التعثر، المقلق فى إنتاج الكم المطلوب من اللقاحات عالميا لأسباب متنوعة. كذلك، يؤكد واقع التجربة تغير نسبة الحماية المطلوبة وفقا لطبيعة المجتمعات، وتكوينها الديمغرافى، ودرجة نموها، والتفاوت العمرى والاجتماعى، ونوعية اللقاح، والمجموعات السكانية التى تحظى بأولوية التطعيم، علاوة على الموقع الجغرافى. حيث يؤكد خبراء منظمة الصحة العالمية أن سرعة سريان «كوفيد ــ 19» تجعل من التمايز المناطقى فى التغطية اللقاحية عائقا أمام بلوغ المناعة الجماعية. ذلك أن إعلان دولة ما إتمامها تطعيم 70% من سكانها لا يعنى بالضرورة تحقيق جميع أقاليمها للنسبة ذاتها. ونظرا لوجود علاقة سببية قوية بين المناعة والعمر، تنصح المنظمة بمنح أولوية التطعيم للفئات الأكثر تعرّضا، من دون تأخير تطعيم الطلائع والشباب. كذلك، يتأثر تحقيق مناعة القطيع بالمعدل التكاثرى، بمعنى عدد الحالات التى تنشأ عن كل إصابة، فكلما ارتفع هذا العدد، تصاعدت الحاجة لتحصين عدد أكبر من المواطنين بغية الوصول إلى الحماية الجماعية. ما يشى بقابلية نسبة التغطية المناعية اللازمة للتغير، ليس على خلفية المرض فحسب، ولكن وفقا للوضع الصحى العام.
ويبقى مستوى الحماية الجماعية مرتهنا بمعدل سريان الفيروس، الذى يتغير حسب تدابير الاحتواء ونسب الامتثال لها. فإذا كان المعدل التكاثرى للفيروس 2، وجبت التغطية اللقاحية اللازمة لمناعة القطيع بنسبة 50%، وإذا ارتفع إلى 3، تغدو النسبة 67%. وبما أن المعدل التكاثرى لفيروس «كورونا» المستجد يقدر بما بين 2.5 و3، فى الوقت الذى لا تلامس فعالية اللقاحات 100%، فقد قُدرت نسبة الحماية اللازمة بنحو 70%. وتختلف الاستجابة المناعية باختلاف ظروف المصابين، خصوصا مع تكرار الإصابة بالفيروس. ولما كانت الحماية المكتسبة بالإصابة ضعيفة جدا لدى المسنين، يبقى جل الذين أُصيبوا مسبقا بالوباء غير محصنين ضد إصابة جديدة. وبينما كانت الحماية الناشئة عن الإصابة لا توازى تلك المتولدة من اللقاح، تظل الحاجة ملحة لتلقيح المتعافين.
ففى الولايات المتحدة، التى فاجأت العالمين بتأييدها تعليق براءات اختراع اللقاحات المضادة لـ«كورونا»، فى خطوة اعتبرتها منظمة الصحة العالمية «تاريخية»، كونها تتيح إنتاج وتوزيع اللقاحات كونيا بغير معوقات، كما تكفل تطعيم غالبية البشر قبل حلول العام 2024، لم يسفر سعى السلطات لتسريع وتيرة التطعيم وتوسيع دائرة متلقى اللقاح لتشمل الصبية والراشدين بحلول يوليو المقبل، حتى تلقى ما يناهز 60 %من إجمالى السكان، الجرعة الأولى، بينما تعاطى الجرعتين معا ما ينيف على 30%، عن تسجيل مراكز السيطرة على الأمراض تراجعا لافتا فى الإصابات المبلغ عنها حديثا. بالتزامن، أظهرت دراسة حديثة لمعهد «القياسات الصحية والتقييم» بجامعة واشنطن، تخطى عدد الوفيات جراء «كوفيد –19» سبعة ملايين حالة، وهو أكثر من ضعف الحصيلة الرسمية المعلنة، التى قدرتها جامعة «جونز هوبكنز» بواقع 3.24 مليون.
بدوره، يشكل التحور المذهل فى سلالات الفيروس التاجى حجر عثرة أمام تحقيق مناعة القطيع. فقد رصدت منظمة الصحة العالمية عدة متحورات فيروسية جنوب أفريقية، وبرازيلية، وبريطانية، وهندية، تجتاح العالم حاليا وتتسم جميعها بالشراسة وسرعة الانتشار، ما يؤدى إلى استشراء الوباء وإجهاض مساعى السيطرة عليه. يأتى هذا بينما يرى المركز الأوروبى للوقاية من الأمراض ومكافحتها، أن فعالية اللقاحات المتاحة حاليا لا تزال محدودة فى مواجهة تلك المتحورات الناشئة والطفرات الجينية الفيروسية المستحدثة، كونها مغايرة كلية للنسخة الأصلية من فيروس «كوفيدــ19»، التى على أساسها تم ابتكار اللقاحات وتطويرها، بما يقلص من تأثير التطعيم ضدها، ويحتم تطوير اللقاحات، وزيادة أعداد متلقيها، ومضاعفة الجرعات، توخيا لتحصيل المناعة الجماعية. وفيما يعرقل نقص المختبرات المتطورة، وتعاظم تكلفة التصنيع، واتساع رقعة الخلاف الدولى بشأن الملكية الفكرية للقاحات «كورونا»، إنتاج عقار جديد يجهز على السلالات المتحورة الجديدة، يحذر عالم الفيروسات البريطانى، جوليان تانغ، من مغبة أن يفضى التطعيم الجماعى إلى تعزيز قدرة الفيروس على التحور ومقاومة اللقاحات.
ففى الهند، التى طالما أشاد مراقبون ببلوغها مناعة القطيع الطبيعية، إثر إصابة ربع سكانها، البالغين مليارا وثلاثمائة ألف نسمة، بـ«كوفيدــ19» العام الماضى، ثم انحسار العدوى بعدها تلقائيا، حتى أعلنت حكومتها فى شهر فبراير الفائت دحر الوباء، راحت سدى تلك التقديرات مع تسجيل البلاد رقما قياسيا عالميا لإصابات ووفيات «كورونا» اليومية خلال الآونة الأخيرة. حيث أكدت منظمة الصحة العالمية تخطى الهند نصف إجمالى الإصابات، وثلث مجمل الوفيات على مستوى العالم، حتى صارت بؤرة عالمية للوباء. الأمر الذى أرجعه خبراء لظهور نسخة متحورة وطفرات جينية من الفيروس تسمى B.1.617 أو «المتحورة المزدوجة»، وهى الأسرع انتشارا، والأشد فتكا، والأقدر على مواجهة اللقاحات، إلى حد الاستعصاء على الاستجابة المناعية، فى بلد يتكدس معظم سكانه بمدن مكتظة دونما وعى أو التزام بالمعايير الوقائية. بينما يعانى نظامها للرعاية الصحية قصورا مروعا، كما تكابد فقرا فى اللقاحات، يقوض خطة الحكومة لتعميم التطعيم. إذ لم يتلق جرعة اللقاح الأولى سوى أقل من 10 % من السكان، بينما لم تتجاوز نسبة متعاطى الجرعتين معا 2 % فقط، فى بلد يعتبر مصنع اللقاحات العالمى بامتياز.
وبظلالها الكئيبة، ألقت تداعيات الوضع الوبائى الكارثى فى الهند على العالم أجمع. ليس لجهة انتقال عدوى سلالتها الفيروسية الفتاكة فحسب، ولكن بجريرة إعاقة حملات التطعيم الدولية. فبينما تحتضن الهند «معهد المصل، وشركة «بارات بيونتيك»، اللذين يزودان العالم بأكثر من 60 %من لقاحات الأوبئة، تتصاعد المخاوف من مفاقمة مأساتها الوبائية لأزمة إمدادات اللقاحات العالمية، خصوصا بعدما اضطرت فى مارس الماضى، إلى وقف صادراتها من لقاحات مبادرة «كوفاكس» الأممية الرامية لتوفير قرابة 200 مليون جرعة لمواطنى 92 دولة منخفضة ومتوسطة الدخل.
برغم ذلك، وبعدما جنحت فى بداية الجائحة، لتجنب فرض الإغلاق الكلى، التماسا للمناعة الجماعية، وتلافيا للتداعيات الموجعة على اقتصاداتها، تتبارى دول العالم اليوم، تحت وطأة تنامى الإصابات والوفيات، فى اتخاذ تدابير تقييدية صارمة. فيما تعول، بالتوازى، على «دبلوماسية اللقاح»، التى بشر بها الطبيب البريطانى، إدوارد جينر، خلال القرن الثامن عشر، آملين أن تسمو الدول الكبرى فوق صراعاتها، فتتضافر جهودها لتطوير لقاحات تقهر النسخ المتحورة من فيروس «كوفيدــ19»، مثلما أسهم تعاون واشنطن وموسكو وباريس، إبان الحرب الباردة، فى هزيمة معضلات وبائية على شاكلة الجدرى وشلل الأطفال.