محمد عبلة الجدير بكل تقدير
سيد محمود
آخر تحديث:
الأربعاء 18 مايو 2022 - 3:56 م
بتوقيت القاهرة
«على قلق كأن الريح تحتى» هكذا كتب المتنبى شاعر العربية الأكبر، لكنه دون أن يدرى وصف تجربة الفنان التشكيلى الكبير محمد عبلة الذى حاز أخيرا جائزة (جوتة) التى تمنحها الحكومة الالمانية.
وهذه هى أرفع جائزة تقدمها ألمانيا فى مجال الثقافة والعلوم، وجاءت كما تقول حيثياتها: «تقديرا لما قدمه الفنان من جهود فنية شكلت جسرا بين الثقافتين المصرية والألمانية، وغيرهما من ثقافات العالم».
وبهذا الاختيار فإن عبلة هو ثالث مبدع عربى يحصل عليها بعد الشاعر السورى أدونيس، وأستاذ الفلسفة والمترجم الراحل الكبير الدكتور عبدالغفار مكاوى.
من يعرف عبلة يدرك ببساطة أنه ليس غريبا عن الثقافة الألمانية، فقد نال منحة للدراسة فى زيورخ بسويسرا وعاش لبعض الوقت فى ألمانيا، وعرض أعماله فى كثير من مدنها، لكن يخطئ من يظن أن الجائزة مكافأة الارتباط بهذه الثقافة فقط وانما هى تتويج لمسيرة فنان ربط عطاءه الفنى بالناس وابتكر العديد من الوسائل لتنمية المجتمعات التى تحرك فيها وعاش.
حقق عبلة الكثير من النجاحات التى لم يحققها غيره، عرض فى معظم مدن العالم وأصبحت له مقتنيات فى الكثير من العواصم، كما أن له مراسم رائعة فى القاهرة وفى الفيوم التى استقر بها قبل أن تتحول قرية تونس لمهبط طائرات لفنانين وسياح من كل جهة وصوب.
وعلى عكس الكثير من الفنانين، لا ينتج فنا نخبويا يدور فى الدوائر ذاتها، بل اختار منذ البداية ربط فنه بالناس، آملا فى اتساع دوائر التلقى يجلس على المقاهى العامرة بالبسطاء يتأمل أحوالهم ويدخن معهم ليجدد ألوان لوحاته لتبقى زاهية باستمرار.
كافح بوسائل عديدة ليصل فنه للناس وبدا فى احوال كثيرة صانعا لفن جماهيرى أقرب لـ«البوب آرت» ومع ذلك يظل إنتاجه حداثيا بأكثر من معنى.
والميزة الرئيسية فى عبلة أنه مشاغب لا يتوقف عن العمل، يصدر فنه من رؤية طليعية على الطريقة التى عمل بها برتولد بريخت أو رسم بها بيكاسو فى الجورنيكا وربما لهذا السبب تحمس لتأسيس متحف للكاريكاتير الذى اهملته الدولة ونسيته الصحافة لأنه فن «المشاغبين».
راسخة فى ذهنى صورته الأولى، التى شاهدتها قبل أكثر من 30 سنة وكان يحمل لوحة ويسير فى شوارع القاهرة إلى جوار زوجته محتجا على حرب الخليج.
وهكذا نظر إلى اللوحة بطريقة تضيف لقيمتها الجمالية، فهى وسيلته الاحتجاجية الاولى، التى قادته لمواجهة القبح بالعمل على تجميل «كوم غراب» ثم فعلها من جديد ودافع عن جزيرة «القرصاية» حيث يوجد مرسمه وقاوم مع أهلها بكل الوسائل لحماية حقهم فى امتلاك الاراضى التى يزرعونها ويسكنون عليها. لم يكن تواجده فى ميدان التحرير خلال ثورة يناير 2011 والايام التى تلتها إلا تأكيدا التزامه، بقضايا المواطنة ما جعله فنانا ملتزما بالمعنى الذى يتجاوز النمط التقليدى الذى فرضته نظريات الواقعية الاشتراكية، فالجانب الطليعى فى تجاربه متأصل وفريد ومن الصعب تجاوزه، ومبكرا فهم ان القيمة الجمالية لأى عمل فنى تأتى من قدرته على التأثير، وتحسين شروط العيش.
ومنذ معرضه الأول بالمركز الثقافى الإسباني عام 79 وحتى معرضه الجديد الذى يتم افتتاحه بجاليرى ضى هذا الاسبوع واجه محاولات تصنيف أعماله من قبل النقاد، فلم يضعها داخل إطار أو مدرسة معينة، وظلت أقرب للنص المفتوح على تأويلات متعددة.
رأى نفسه فى مكانة المبشر الذى يكتشف مناطق فى الفن والحياة ليأتى من يكملها وهذا يفسر انخراطه الدائم فى العمل مع الشباب كما يفسر ايضا المفهوم الذى يتبناه لمعنى الحداثة فهى من وجهة نظره، لا ترتبط بالتقنية وانما بالسياق الزمنى، فحداثة اللوحة مهما كانت تجلياتها المباشرة مصدرها قدرتها فى التعبير عن زمن انجازها والسياق الذى تولد فيه.
يستحق عبلة الجائزة ويستحق أيضا أن تكرمه مصر التى كان من بين نخبة الخمسين الذين كتبوا دستورها بعد إزاحة الإخوان ويستحق أن تتذكره قوائم الترشيح لجوائز الدولة التقديرية فى الفنون، فالرجل على مشارف السبعين ولا يزال خارج جنة التقدير الرسمى، وهذا تقصير لا يجوز وتتحمل مسئوليته جهات الترشيح التى لا تنظر أبعد من كشوف الأكاديميين المتخمة بالبيروقراطية الفنية والنقدية وتهتم بالأقدمية وليس بالجدارة.