المهاجرون قادمون... واللاجئون أيضا

آخر تحديث: الأربعاء 17 مايو 2023 - 8:55 م بتوقيت القاهرة

تشكل الهجرة تحديا كبيرا وفرصا متنوعة فى عالم اليوم، فبها ارتقت اقتصادات وبسببها سقطت حكومات، وحيالها يواجه صناع القرار خيارا بين جعل الهجرة معينا على زيادة النمو الاقتصادى وتحقيق التنمية ومكافحة الفقر، وبين جعلها مصدرا للتوتر والاحتقان ونزيف العقول وهدر الفرص.
وصدر عن البنك الدولى الشهر الماضى التقرير السنوى الأهم عن التنمية فى العالم، تحت عنوان «المهاجرون واللاجئون والمجتمعات». ولعل أهم ما ورد فى هذا التقرير تحديث لحقائق تدفقات الهجرة، فأرقام المهاجرين الذين جرى تعريفهم بأنهم يعيشون خارج بلدانهم التى يحملون جنسيتها، تقدر بنحو 184 مليون إنسان بما يعادل 2.3 فى المائة من سكان العالم، ويتضمن هذا الرقم 37 مليونا من اللاجئين. ويستقر 43 فى المائة من المهاجرين فى بلدان نامية منخفضة ومتوسطة الدخل. وتزداد حالات الدول التى تتجاوز التقسيم التقليدى بين دول مصدرة ودول مستقبلة للمهاجرين. فبسبب التغيرات فى التركيبة السكانية وتفاوت معدلات الزيادة، والنقصان أيضا، فى أعداد السكان؛ فضلا عن تغيرات المناخ والصراعات الجيوسياسية تزداد ظاهرة الهجرة تعقيدا، لتصبح دول كثيرة مصدرة ومستقبلة للمهاجرين فى الوقت ذاته، بغض النظر عن مستوى الدخول فيها.
ويتعرض التحليل الاقتصادى والسياسى المعاصر لظواهر قديمة، باستعراض قوالب ونماذج جديدة، ولكن تظل دوافع الطرد والجذب على أسسها، فالناس منذ خُلقوا بين حل وترحال وحراك عبر الحدود وقبل تعريف الحدود. وقديما حددت دوافع السفر والهجرة أيضا فى خمسة وُضعت شعرا فى بيت مشهور تجده فى ديوان الإمام الشافعى، حيث حدد فوائد التغرب عن الأوطان فى «تفرُّج هم، واكتساب معيشة، وعلم، وآداب، وصحبة ماجد».
وقد يسبق أحد هذه الدوافع غيره أهمية عند المهاجرين؛ لكن تظل الأسباب الاقتصادية للهجرة هى الأهم بين عوامل الجذب إلى بلدان المهجر والطرد من أوطان المهاجرين، بسبب فروق الدخل. ففى عام 2020 استقر 84 فى المائة من المهاجرين فى بلدان أكبر دخلا وأكثر ثراء من بلدانهم الأصلية.
ثلاث مربكات تشكل ظاهرة الهجرة المعاصرة وموجاتها: بالاطلاع على التقرير يسهل عليك تحديد ثلاثة عوامل مهيمنة ومربكة تشكل موجات الهجرة وأنماطها: وهى تغير أعداد السكان وتركيبتهم الديموغرافية؛ وتغيرات المناخ؛ والصراعات والتحديات الجيوسياسية.
أولا: يشكل البعد السكانى وتغيراته منافسة فى طلب المهاجرين، ودافعا من دوافع الهجرة أيضا. وكما استعرضت من قبل فى هذه الصحيفة الغراء، فمن «المربكات» فى سبيل التنمية والتقدم، تلك التغيرات المهمة فى أعداد السكان والتركيبة الديموغرافية التى تشهد زيادة فى توقعات الأعمار عند الولادة، مع شبابية التركيبة السكانية فى بلدان الجنوب، مع نقصان فى معدل تغير أعداد السكان وميل تركيبتهم إلى الشيخوخة فى بلدان الشمال. ويشير التقرير على سبيل المثال إلى أن إيطاليا ذات الـ59 مليون نسمة سينخفض عدد سكانها إلى 32 مليونا مع نهاية هذا القرن، مع ارتفاع نسبة الأكبر سنا من 65 سنة إلى 38 فى المائة من السكان، مقارنة بنحو 25 فى المائة حاليا. أما فى حالة نيجيريا، أكبر البلدان الإفريقية عددا للسكان، فستتضخم من 213 مليون نسمة إلى 791 مليون نسمة، لتصبح ثانى أكبر الدول على مستوى العالم بعد الهند فى عام 2100.
من الناحية الإحصائية، قد تجد مشكلة السكان حلا وفقا لآليات الأوانى المستطرقة، حتى يتحقق التوازن بين حالات الفائض والعجز السكانى؛ لكن اعتبارات الاقتصاد السياسى والقيود الاجتماعية والثقافية تذكرنا بأن الأمر ليس بهذا اليسر. ولا يمكن إغفال ما قد تسهم فيه إيجابيا الهجرة الشرعية والمنظمة من علاج للاختلالات السكانية والمتطلبات المحددة لدول المصدر والمهجر على السواء، لتلبية احتياجاتها الاقتصادية، وتوفير الخدمات الأساسية لمواطنيها؛ وهى من الأمور التى لا تلقى حقها من الاعتبار؛ خصوصا فى بعض دول المهجر فى الشمال لاعتبارات سياسية. كما تتطلب الاستفادة من الذخيرة السكانية فى دول الجنوب استثمارا فى البشر؛ خصوصا فيما يتعلق بالتعليم والمهارات والرعاية الصحية.
ثانيا: من المربكات أيضا ما نجده من آثار شديدة لتغيرات المناخ على الحياة والنشاط الاقتصادى ومن ثم الهجرة، وبداية ظاهرة اللجوء المناخى. ويشير التقرير إلى تغيرات تزيد من الأسباب الاقتصادية الدافعة للهجرة حيث يعيش 40 فى المائة من سكان العالم بما يقدر بنحو 3.5 مليار نسمة فى أماكن أكثر عرضة لتأثيرات تغيرات المناخ، كشح المياه والجفاف وموجات الحرارة اللافحة، وحرائق الغابات، وارتفاع منسوب البحار والمحيطات، وكثرة التعرض للفيضانات والأعاصير. وهناك بقاع فى الأرض تزداد صعوبة الحياة فيها اليوم، حتى قبل الزيادة المتوقعة لارتفاع درجة حرارة الأرض؛ ولننظر فيما يعترض أقاليم متباينة، مثل منطقة الساحل الأفريقى أو الأراضى المنخفضة فى بنجلاديش، فضلا عن الجزر الصغيرة المهددة.
وتشير جايا فينس، فى كتابها المعنون «عصر الرحل: كيف ستشكل الهجرة المناخية عالمنا؟»، إلى أن تدهور المناخ سيدفع بزيادة حالات الهجرة الاضطرارية واللجوء المناخى من المناطق التى تزداد حرارتها فى الجنوب فى آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، إلى دول الشمال التى عليها أن تستعد لتدفقات بشرية غير مسبوقة من لاجئى المناخ، ما دامت استمرت الانبعاثات الضارة بالمناخ بأنماطها الراهنة من دون تخفيض جذرى.
ويستلزم الأمر نهجا متكاملا وتعاونا دوليا باستثمارات، للتعامل مع تغيرات المناخ، سواء للتوقى منها أو التوافق معها، فى مجالات التخفيف والتكيف والتعامل مع ملف الخسائر والأضرار، مع توفير اللازم لها من تمويل ميسر طويل الأجل، واستثمارات فى مشروعات تبنى على التكامل بين العمل المناخى وتحقيق أهداف التنمية المستدامة، التى ينبغى رسم سياسات الهجرة ــ سواء للدول المصدرة أو المستقبلة ــ فى إطارها.
ثالثا: مع انتشار الحروب والصراعات الأهلية وعمليات العنف والإرهاب والحروب، ومع تصاعد التوترات الجيوسياسية، زادت تدفقات المهاجرين من اللاجئين إلى أماكن يأمنون فيها نسبيّا على حياتهم، وأصبحت بأعداد غفيرة ظن الناس أنهم لن يشهدوا لها مثيلا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. وقد ارتفعت أعداد اللاجئين إلى الضعف خلال العقد الماضى، حتى بلغت نسبتهم 20 فى المائة من إجمالى المهاجرين؛ هذا فضلا عن أعداد أكبر من المهجرين والنازحين داخل حدود بلدانهم. ويتركز اللاجئون فى بلدان أقرب لحدود بلادهم الأصلية، كما يشكل الأطفال نسبة لا تقل عن 40 فى المائة من الإجمالى. وقد أشرت فى مقال سابق لارتفاع فى متوسطات سنوات مكوث اللاجئين فى أماكن لجوئهم، بما يتجاوز 17 عاما فى المتوسط، بما يتطلب التعامل مع مجموعة متشابكة من الخدمات والمساعدات الإنسانية العاجلة، جنبا إلى جنب مع توفير الاحتياجات الأساسية والتنموية والأمنية.
ويقدم تقرير البنك الدولى إطارا للتعامل مع الهجرة، يطلق عليه عوامل «التوافق والدوافع» يستند إلى اقتصاديات سوق العمل من ناحية والقانون الدولى من ناحية أخرى. ففيما يتعلق بجانب التوافق يركز على مدى ملاءمة مؤهلات عمل المهاجرين ومهاراتهم وخصائصهم الاجتماعية والاقتصادية مع احتياجات بلدان المقصد. وبدهيا كلما زاد هذا التوافق ارتفعت احتمالات المنفعة على بلد المقصد ودخل المهاجر، وبلده الأصلى من خلال التحويلات. أما فيما يتعلق بالدوافع، فتشير إلى الأحوال التى سببت الهجرة التى قد تكون فى سبيل البحث عن فرص أفضل للمعيشة والعمل، أو تدنى الأوضاع الأمنية والاقتصادية فى بلد المهاجر، وخشية تعرضها لمزيد من التدهور، أو الخوف من الصراعات وازدياد العنف والاضطهاد، بما يتطلب حماية تنظمها الاتفاقات الدولية. ثم يجمع التقرير بين عوامل التوافق والدوافع لتحديد أولويات السياسات والإجراءات المطلوبة فى البلد الأصلى للمهاجر وبلد المقصد، وكذلك فى بلدان الترانزيت، فى الحالات التى تتطلب مرورا بها طالت أو قصرت مدته.
ويوصى التقرير بضرورة فهم الأشكال المختلفة لحركة المهاجرين، ومدى تحقق شروط التوافق والدوافع من أجل زيادة منافع الهجرة على أطرافها، وتقليل خسائرها إذا انخفضت أو غابت الشروط المبتغاة للتوافق وساءت الدوافع. وعلى سبيل التبسيط نفرق بين أربع حالات:
الحالة الأولى: وهى أفضل الحالات، والتى تمثل السمة الغالبة فى الهجرة؛ حيث تتوفر المهارات المطلوبة فى المهاجر وتتوافق مع احتياجات بلد المهجر مع توفر دوافع مقبولة للهجرة، وفيها تتجاوز المنافع لأطراف عملية الهجرة تكاليفها. ومن أمثلتها المهندسون الهنود فى وادى السيليكون فى كاليفورنيا.
الحالة الثانية: وفيها تكون المهارات المطلوبة مفتقدة مع عدم استفحال تعقد ظروف الهجرة ودوافعها، وهنا تزيد تكلفة الهجرة على منافعها؛ ومن أمثلتها المهاجرون قليلو المهارة على الحدود الجنوبية للولايات المتحدة.
الحالة الثالثة: حالة اللاجئين ذوى المهارات العالية التى اضطرتهم ظروف بلدانهم لتركها. ويضرب التقرير مثلا بأرباب المشاريع السوريين، والأطباء من فنزويلا. ويحتاج الأمر معالجة خاصة لزيادة فرص الانتفاع بهذه المهارات، مع توفير الأمن والضمانات القانونية.
الحالة الرابعة: وهى الأسوأ؛ مثل حالات اللاجئين من غير ذوى المهارات، والنازحين نجاة بحياتهم، وغير مسموح لهم بالعمل، كحالات الأطفال غير المصاحبين بأهاليهم فى أفريقيا، واللاجئين المضطهدين عرقيا، مثل الروهينجا الفارون من ميانمار. وهنا تتغلب الاعتبارات الإنسانية والأمنية على الاعتبارات الأخرى.
يستلزم التعامل مع الهجرة تعاملا يستند إلى الحقائق، وبقدر عالٍ من المرونة، وضبط الحوار حوله بتخفيف حدة تسييسه التى تعتريها فى أحوال كثيرة اعتبارات آيديولوجية وانتهازية وعنصرية. فحتى يستبين النفع والمكاسب من أوجه التكلفة والأذى من انتقال البشر، نحتاج لتحليل موضوعى وسياسات منضبطة للحالات المختلفة للهجرة بأنواعها، وتضمين الاعتبارات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والإنسانية المصاحبة لها، لكى تصبح مصدرا للنفع المتبادل لأطرافها. فالهجرة بأنماطها المختلفة ستزداد موجاتها، للاعتبارات السكانية والاقتصادية والمناخية والجيوسياسية، بما يستوجب نهجا واعيا لتعظيم منافعها واحتواء مثالبها، من خلال سياسات متكاملة فى بلدان المصدر والمرور والمهجر، وتعاونا أراه حتميا بينها؛ فعواقب دفن الرءوس فى الرمال وخيمة.