ماضي للبيع
جميل مطر
آخر تحديث:
الأربعاء 17 يوليه 2013 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
مجلس تحرير صحيفة كريستيان ساينس مونيتور التى تصدر فى مدينة بوسطون فى شرق الولايات المتحدة، نشر بتوقيعه مقالا عن التطورات الثورية فى مصر، يلفت فيه بذكاء نظر القارئ إلى أن ثورة ثقافية ناشبة بالفعل فى مصر تختلف واقعيا وجذريا عن التطورات الثورية الأخيرة. تختلف فى أنها ناشبة تحت السطح لم تتوقف ولم تتقطع. تختلف أيضا فى أنها تعبر عن نفسها بالموسيقى والرسم والغناء والشعر. الثورات الناشبة فوق السطح موضوعاتها سياسة واقتصاد وعدالة، أما الثورة الثقافية المصرية فموضوعها الهوية، ثورة تعزز هوية أو تبحث عن أخرى. ثورة سلمية هادئة وليست كالثورات الثقافية فى بلاد أخرى كالصين مثلا.
●●●
بينج فو PING FU، هاجرت من الصين إلى أمريكا فى عام 1995، واستطاعت أن تقيم مصنعا لإنتاج التكنولوجيا المتقدمة وصارت من سيدات الأعمال الناجحات. أرادت أن تحظى باهتمام أوفر فكتبت كتابا تحدثت فيه عن جانب من حياتها، وهو الجانب الذى صادف نشوب الثورة الثقافية الصينية بين عامى 1967 و1976.
بمجرد طرح الكتاب فى السوق انهال عليه المدونون بانتقادات وسلطوا اتهامات وإساءات على المؤلفة. امتلأت صفحات الكتاب بقصص مرعبة عن الثورة الثقافية وعمليات الترويع والقتل والتعذيب التى اتهم بتنفيذها الحرس الأحمر المشكل أساسا من شباب المدارس الثانوية والجامعات.
كتبت السيدة بينج وسردت وأفاضت. وكغيرها من مؤلفى هذا النوع من الروايات الشخصية قدمت نفسها كضحية عانت صنوف البؤس والعذاب، حكت أنها كانت طفلة عندما مات أبواها فتولت تربية شقيقتها الأصغر، وقصت رواية عن اغتصابها وحكاية عن طردها من المدرسة ونقلها إلى معسكر عمل لأنها كتبت موضوع إنشاء تنتقد فيه قرارا من الحزب يشجع العائلات على الاكتفاء بطفل واحد والزوجات على الإجهاض.
●●●
تعرض الكتاب لحملة مركزة من النقاد والمدونين والقراء تتهم الكاتبة بالكذب. بعضهم خرج يدافع عن الثورة الثقافية الصينية مشيرا إلى أنه من غير المعقول أن تكون الثورة بالبشاعة التى تصفها بها الكاتبة رغم أنه خرج من رحمها مهندسون وأطباء وأساتذة وعلماء قادوا الصين نحو تحقيق المعجزة التى تعيش فيها الآن.
آخرون من المهاجرين الصينيين اتصلوا من الولايات المتحدة، وطنهم الجديد، بالمدرسة التى ادعت الكاتبة أنها قضت فيها وقتا قبل أن تطرد منها فجاء الرد بالإنكار، واتصلوا بالجامعتين اللتين ذكرت أنها حصلت على شهادة من كل منهما فكذبتا ما ذكرت، كلفوا من يبحث فى سجلات الشرطة الصينية فلم يعثروا على أوراق تثبت تعرضها للاغتصاب أو المتاعب كما زعمت فى الكتاب.
على ضوء هذه الحملة استدعت مجلة Forbes الشهيرة الكاتبة لإجراء مقابلة تصحح من خلالها بعض المعلومات التى وردت فى الكتاب. فشلت المؤلفة فى تقديم ما يثبت صدق ما أوردته من معلومات فاستمر الكتاب يتعرض لملاحقات من القراء مما أدى إلى سقوط أرقام مبيعاته واستعد الناشر لإعلان أسفه على نشر الكتاب.
●●●
فجأة، تعلن صحيفة أمريكية ذائعة الصيت أن كتاب Bend Not Break الذى ألفته سيدة الأعمال الصينية الأصل بينج فو كان الأكثر مبيعا خلال فترة صدوره. وجاء فى صحيفة أخرى أن «معجبين» بالكتاب، يقودهم المليونير الذى اشترى مصنع السيدة «بنج فو» بمبلغ خمسين مليون دولار، شنوا حملة إعلانات نقلت مبيعات الكتاب فى أسبوع واحد من مرتبة متدنية للغاية إلى مرتبة الكتب الأكثر مبيعا.
●●●
تصادف أن تشن فى هونج كونج ومدن صينية عديدة حملات تعيد إلى الذاكرة أحداث الفترة التى أقدم فيها الشباب بتشجيع من الرئيس ماو على ترويع المواطنين وبخاصة «كل من فى السلطة» . كانوا يضربون أساتذتهم ويروعون جيرانهم ويبصقون على معلميهم فى المدرسة وأساتذتهم فى الجامعة. كان هدف الرئيس ماو إبقاء جذوة الثورة مشتعلة خاصة بعد أن بدأ يتسرب إلى عقول المسئولين فى الحزب والبيروقراطية أن الأمور استقرت لهم فعادوا يفسدون فى البلاد.
يشترك فى حملة التذكير بأحداث الثورة الثقافية مواطنون هدفهم الاعتذار عما اقترفوا وهم فى سن الشباب ضد المعلمين وقادة الحزب ورجال القضاء والإدارة، كتب أحدهم بيانا إلى الشعب يقول فيه « أصدقائى، إذا كان أحدكم تسبب فى إلحاق الأذى بشخص آخر، دعونا نقدم اعتذارا واعترافا، ليس فقط من أجل سلامنا الداخلى ولكن لنتمكن من مواجهة أولادنا والتاريخ بشجاعة».
مواطنون آخرون، عادوا يحنون إلى أيامها، أيام الثورة الثقافية، ويمجدونها ويتصدون لكل من يسىء إلى سيرة الرئيس ماو. هؤلاء ينتهزون الفرص المناسبة لإحياء الأعمال الموسيقية والأناشيد الوطنية والتحريضية التى اشتهرت بها مرحلة الثورة الثقافية.
من ناحية أخرى، يصر قادة الصين من رجال الحزب والحكومة، على عدم السماح بتدريس هذه المرحلة فى المدارس وعدم إثارة نقاش مفتوح حولها، وفى الوقت نفسه عدم إنكار وقوعها. الأمر الذى يمكن فهمه إذا عرفنا أن معظم قادة الصين الحاليين كانوا تلاميذ مدرسة أو طلبة جامعة خلال الثورة الثقافية مارسوا العنف الثورى للمحافظة على نقاء الثورة، ومن هذه المرحلة، وغيرها من مراحل عهد ماو، يستمدون الجانب الأعظم من شرعيتهم.
●●●
هناك فى الغرب من يريد تشويه صورة الصين، وهناك من يريد إثارة الشقاق داخل الصين لتعطيل وتعقيد مسيرتها، وهناك أيضا من يريد فتح جروح مراحل العنف فى الثورة الصينية بهدف ضم الصينيين إلى الحملة العالمية ضد النازية وأشباهها واستكمال دائرة الهولوكوست. يحاولون مع أنهم يعرفون، والصينيون كذلك، أن العنف الذى مارسه الأوروبيون والألمان خاصة فى الصين قبل الثورة كان من بين الأشد قبحا ووحشية فى تاريخ الغرب.
●●●
فى الصين الآن من يؤمن، وعن ثقة بالنفس، بأن التصالح مع الماضى خطوة صحيحة وأساسية نحو بناء مستقبل الرخاء والتقدم.