مساءات حيفا الدافئة

آخر تحديث: الثلاثاء 17 سبتمبر 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

جاء رنين السكايب مدويا قويا.. تكرر لأكثر من مرة وأنا أعرف المنادى بلهفة فتحت جهاز الكمبيوتر، وكانت صديقتى المعتقة فى القلب دوما.. تلك المقيمة جسديا فى الولايات المتحدة منذ سنين، بينما هى لا تزال تعيش على نبض فلسطين، وهذا العالم الذى كان يقال عنه إنه عالم عربى واحد! هى ككثيرين من العرب منتشرون هناك ولكنهم لا يزالون هنا.

فى كل لقاء سكايبى كنا نتحدث عن كل شىء نبدأ بالخاص ثم لا نلبث وأن نعود للعام.. بيننا نحن الاثنتان يتداخل الاثنان بقوة حتى لا نعرف هل الدمعة على الأخوة والأخوات والعائلة وأبنائها أم على الأوطان.. نبدأ دوما بجرد دائما ما ينتهى عند فلسطين.. لا نبعد كثيرا إلا ونعود إلى حيفا، حيث هى ولدت هناك فى بيت عادت له يوما بعد مرور سنين وانتقال أسرة يهودية للعيش به.. عندها دقت الباب وكانت تسمع طرق دقات قلبها وقفت ترجف ربما من الغضب، ربما من الحزن.. فتح لها الباب، وكانت الأسرة كريمة بعض الشىء فأدخلتها لتلملم بعض الذكريات العالقة بجدران البيت المعتق بالحب.. لم تستطع أن تطيل الوقوف أو الجلوس كانت تريد أن تقول لهم الكثير.. قالت بعضه.. راحت تعيد تصميم البيت، وكيف كان يستقبل الصباحات والمساءات.. هنا كنا نجلس مع أمى وأبى وأخوتى.. هنا كانت تلك الأم الفلسطينية المغروزة كشجر الزيتون تجهز الزعتر وهنا وهناك.. خرجت متعبة أكثر مما دخلت.. غاضبة؟ بالتأكيد جدا جدا.. كثيرا ما كانت تقول ونحن نتسامر فى ليالى المدن العربية ــ حيث كنا نلتقى كل مرة بمدينة ــ تردد لكم أوطان تعودون لها، أما أنا فلا وطن لى رغم أنى أرى يافا وحيفا كل يوم!

●●●

فى كل لقاء عبر السكايب نعرج على فلسطين وحديث القلب، السكايب الذى أصبح وسيلتنا للتواصل أو حتى الاحساس بأننا لم نبعد عن بعض نمسك كل واحدة بطرف فستان الاخرى، تكرر عليها عندما تحتاجين لى ما عليك سوى الذهاب إلى جهاز الكمبيوتر.. أحيانا نطيل الحديث فنتصور أننا هناك فى إحدى سهراتنا ببيتها المغلف بالدفء فى المنامة عندما حملت كتبها وأقلامها وحزنها وحبها ورحلت إلى بلد عربى قالت.. إلى بلد عربى حيث هو الأقرب لـ«عكا».. طالعتنا مساءات البحرين بنسمتها البحرية الرطبة وعشائنا الممدود على سفرة تحمل تلاوين هذا الوطن وكثيرا من المقلوبة الفلسطينية والضحك وبعض الفرح الصبيانى.

البارحة جاء صوتها بخلفية وحدة، كانت صورتها خالية إلا من وحدتها رغم أنها وكعادتها دوما كانت قد استبقلت بعض الأصدقاء قبلها بقليل.. قالت كانوا هنا ولكنى بقيت منزوية فى وحدتى.. كثيرا ما تشتد الوحدة فى وجود الكثيرين! أحيانا عندما تشتد أزمات الوطن تزداد وحدتك حتى لو كنت فى وطنك، قلت لها ذلك لأخفف عنها.. وكررت نحن جميعا بلا أوطان فما نفع أن تعيش فى وطن لا يشبهك، لا يحبك، تطاردك أشباحه، وتتربص بك القبيلة لتضبطك متلبس بفعل عشق هذا الوطن.. هكذا هى جريمة الكثيرون منا.

●●●

جلساتنا تطول مع ترقب كل حرب على بلد عربى، ونعود لنفس الحنين والذكريات التى جمعناها وخبئناها بعناية شديدة حتى لا ترحل الصور والذكريات كما ترحل المدن التى كانت.. تحدثنا عن السير فى الحميدية واكل البوظة الشامية وعن باب توما وباب شرق طويلا طويلا وقفنا.. هى الباحثة فى التاريخ لا تستيطع ان تستوعب جنون قتل الطفل والشيخ والمرأة والرجل ثم تهديم التراث على رؤسهم.. شىء من العبث هو أن نقتل كل ما هو جميل فينا.. كل شىء أصبح رخيصا جدا.

بعد أن اشتد الحزن حتى تمكن قالت محاولة أن تقلب الموقف إلى شىء من التفائل الذى لولاه لتحولت أيامنا إلى شكل من الجحيم.. نقرة على ذلك الشريط، حيث أغنية حلوة يا بلدى على وقع صور من فلسطين.. لحيفا ويافا وعكا تعود كلما اشتد الحزن فهى الحزن، وهى الفرح أيضا.

●●●

قبل أن ننهى زيارتنا عبر السكايب الذى راح يتقطع وكأن حتى التكنولوجيا تطاردنا وتحاربنا وتتآمر علينا وليست العيون الحاقدة، رددت وكأنها تحاول إقناع نفسها «ستعود فلسطين يا عزيزتى حتى ولو بعد حين.. سيعود أحفادنا إلى هناك أو ربما أحفاد أحفادنا..» شىء من الهدوء والسكينة خيم على وقع الزيارة الافتراضية، وكأننا نقول تصبحون على فرح.. تبقى الأوطان أقوى من تقتل.

 

كاتبة من البحرين