المجتمع المدنى المتغير فى المغرب
العالم يفكر
آخر تحديث:
الإثنين 18 يناير 2016 - 10:25 م
بتوقيت القاهرة
فى 12 ديسمبر 2015، أدى مسرح المحكور مسرحيته «بحال بحال» فى شوارع عين السبع، إحدى ضواحى الدار البيضاء، أمام مئات الأشخاص. تتطرق المسرحية إلى موضوع العنصرية فى المغرب التى تستهدف المهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء، وقد شجع المشاهدون على التدخل خلال المسرحية وتحديد مسار الأحداث. أنشئ مسرح المحكور فى الدار البيضاء فى العام 2012 على يد حسنى المخلص، الناشط السابق فى حركة 20 فبراير. ومنذ ذلك الوقت، تنظم الفرقة عروضا فى شوارع العديد من المدن المغربية تتطرق فيها إلى مواضيع الفساد القضائى، والعلاقات الجندرية، والانتخابات.
مسرح المحكور هو واحد من العديد من منظمات المجتمع الأهلى التى أنشأها نشطاء سابقون فى الجناح اليسارى العلمانى لحركة 20 فبراير بعد مغادرتهم الحركة عندما بدأت بالانحسار. كانت حركة 20 فبراير تيارا غير هرمى متنوعا على المستوى الأيديولوجى يحظى بالدعم من الشباب اليسارى فضلا عن التيار الإسلامى الأكبر فى المغرب، العدل والإحسان، من جملة أطراف أخرى. لقد يعنى تراجع احتمالات اندلاع احتجاجات واسعة النطاق فى المغرب.
***
بعد العام 2011، بدأ الفاعلون فى المجتمع الأهلى يتحولون نحو الميادين الثقافية، مثل المسرح والأدب، وركزوا فى شكل أكبر على العمل فى المساحة العامة. ينظم هؤلاء الأفرقاء أنشطتهم بوتيرة متزايدة فى الشوارع، بعدما أدركوا، من خلال تجربتهم فى حركة 20 فبراير، أن اليسار السياسى فى المغرب يفتقر إلى قاعدة نفوذ حقيقية. فقد غادرت أيضا جماعة العدل والإحسان الإسلامية التى شكلت مكونا مهما من مكونات حركة 20 فبراير، الحركة نحو أواخر العام 2011. وجاء النصر الانتخابى لحزب العدالة والتنمية الإسلامى فى نوفمبر من العام نفسه ليسلط الضوء أكثر فأكثر على القدرة التنظيمية للإسلام السياسى فى المغرب وضعف اليسار السياسى. بعدما وجد هؤلاء الأفرقاء أنهم يفتقرون إلى الدعم الكافى من القواعد الشعبية من أجل التعبئة، بدأوا يرون فى انخراطهم فى المجتمع المدنى وسيلة لبناء قاعدة شعبية ــ أى من خلال العمل مع المجتمع بدلا من العمل ضد النظام. على النقيض من حركة 20 فبراير، لا ترفع هذه المنظمات مطالب واضحة إلى النظام، بل تحاول تحفيز التغيير على مستوى القواعد الشعبية، و«تثقيف» الناس عن مسائل تعتبرها محورية لتنشئة مواطنين يتمتعون بالحس النقدى. هذه المقاربة للمسئولية الفردية تترك الدولة خارج المعادلة.
لذلك انتقلت جهات فاعلة عدة فى المجتمع الأهلى إلى المساحة العامة من أجل الوصول إلى جماهير جديدة وإشراكها، ونشر الوعى لدى شرائح جديدة من السكان. وقد أصبحت المواضيع الثقافية من الوسائل المفضلة لدى هذه الجهات. بدأ نادى الوعى الطلابى، وهو عبارة عن منظمة طالبية فى الدار البيضاء، تنظيم جلسات قراءة فى كلية العلوم فى جامعة عين الشق بالدار البيضاء فى 2007. يشار إلى أن عددا كبيرا من أعضاء المنظمة شارك فى حركة 20 فبراير، وفى العام 2012، بدأت المنظمة نقل جلسات القراءة إلى المساحة العامة. حتى الآن، نظم نحو مائة تجمع من هذا النوع فى شوارع الدار البيضاء، بمشاركة مائة إلى ثلاثمائة شخص، بحسب ياسر بشور، أحد كبار المنظمين. يهدف النادى إلى تحفيز الطلاب والجمهور العام لجعل القراءة نشاطا يوميا.
ثمة عوامل مؤسسية تقف أيضا خلف استيعاب الحركة الاحتجاجية فى المجتمع الأهلى. فالأحزاب السياسية أصبحت غير جاذبة، ويتعذر الوصول إليها فى معظم الأحيان، ما يجعل المجتمع المدنى الخيار الحيوى الوحيد للحصول على شكل من أشكال المشاركة السياسية. عددٌ كبير من النشطاء السابقين انضم فى البداية إلى أحزاب سياسية فى اليسار وأقصى اليسار، مثل الحزب الاشتراكى الموحد وحزب الطليعة الديمقراطى الاشتراكى. بيد أن هذه الأحزاب فشلت فى استيعاب معظم هؤلاء النشطاء السابقين الذين اعترضوا على هرميتها، وهيكلياتها الداخلية البائدة، وغياب الديمقراطية داخل الأحزاب. غادر معظم الأعضاء الشباب الجدد فى غضون عام من انضمامهم إلى الأحزاب، وبدأوا إنشاء منظمات أهلية جديدة أو الانضمام إلى المنظمات القائمة.
لقد شجعت الدولة هذا الأمر. فالدستور المغربى الجديد الذى أقر فى العام 2011 يعزز مكانة المجتمع الأهلى. ينص الدستور على أن المنظمات غير الحكومية تساهم فى إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية، وفى تفعيلها وتقويمها (الفصل 12). وعلى السلطات العمومية إحداث هيئات تشاورية بغية إشراك الفاعلين الاجتماعيين فى إعداد السياسات العمومية وتفعيلها وتنفيذها وتقويمها (الفصل 13)، لكن هذه الهيئات لم تبصر النور حتى الآن. وللمواطنين أيضا الحق فى تقديم ملتمسات فى مجال التشريع (الفصل 14)، وفى تقديم عرائض إلى السلطات العمومية (الفصل 15). يفرض الدستور إصدار قوانين لتنظيم هذه الحقوق الجديدة، لكن على الرغم من تقديم مشروعى قانون حول حقوق رفع العرائض واقتراح مشاريع قوانين، إلى مجلس النواب فى أبريل 2015، لم يتم إقرار أى منهما حتى الآن. فى حال تطبيق الدستور الجديد كما يجب، من شأنه أن يمنح المجتمع الأهلى مجالا وافيا لتوسيع مشاركته السياسية، الأمر الذى يحفز بدوره المواطنين لإنشاء مجموعات أهلية والانضمام إليها. وينص الدستور أيضا على تعزيز التعاون بين مؤسسات الدولة والمجتمع الأهلى، ما يسهل على الدولة فرض سيطرة أكبر على هؤلاء الفاعلين الاجتماعيين. فى المدى الطويل، غالب الظن أن هذه التنازلات للمجتمع الأهلى ستدفع بعدد كبير من الجهات المدنية الفاعلة إلى التوقف عن التشكيك فى تركيبة السلطة السياسية الراهنة، لا بل إلى السعى إلى الإفادة من الفرص السياسية التى تتيحها الدولة.
***
لقد تقبل النظام أنشطة الفاعلين الجدد فى المجتمع المدنى، على غرار مسرح المحكور وسواه من التنظيمات التى أنشأتها حركة 20 فبراير ــ مثل حركة أنفاس الديمقراطية ومعهد بروميثيوس للديمقراطية وحقوق الإنسان ــ لكن لا يجب اعتباره انحسارا فى القمع الذى تمارسه الدولة. على العكس، ازداد القمع بحق منظمات ونشطاء حقوق الإنسان منذ العام 2013. ويستهدف فى شكل أساسى الجهات الفاعلة التى تنتقد النظام الملكى أو تتطرق إلى مسائل حساسة مثل وضع الصحراء الغربية، إذ يعتبر أن مناقشة هذه المسألة تشكل تهديدا لسلامة الأراضى المغربية. فى العام 2014، فرض حظر على أكثر من ستين نشاطا من تنظيم الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، وهى هيئة مستقلة. وقد منع المعطى منجب، رئيس جمعية «الحرية الآن» التى تدافع عن حرية التعبير، من السفر، ولم يرفع حظر السفر عنه إلا بعدما نظم إضرابا عن الطعام.
يعنى القبول بهذه المبادرات الأهلية الجديدة أن النظام ينظر إلى هذه المجموعات والمنظمات بأنها أقل تهديد له، ويرحب بالتركيز المتزايد على الثقافة على حساب المطالب السياسية العلنية. فى شكل عام، لم تتجاوز هذه الجهات حتى الآن أية خطوط حمراء. فعلى سبيل المثال، تمكن مسرح المحكور، خلال العام 2015 الذى شهد انتخابات محلية فى المغرب، من عرض مسرحية عن موضوع الانتخابات فى العديد من المدن فى مختلف أنحاء المغرب من دون أن يتعرض للتعطيل من الدولة. واقع الحال هو أن نسب الاقتراع متدنية فى المغرب، ما يقوض رواية الدولة عن الديمقراطية التشاركية، وترحب السلطات على الأرجح بمسرحية تجعل الناس يتناقشون حول الانتخابات.
تركز هذه المنظمات فى شكل عام على التغيير التدريجى، وتساهم بهذا المعنى ــ عن قصد أم لا ــ فى ترويج رواية النظام الملكى عن الإصلاح التدريجى. وهكذا فإن استيعاب النشطاء السابقين فى المجتمع الأهلى، وتفكك المجتمع المدنى إلى مجموعات متخصصة، وغير مسيسة فى الظاهر، والمنطق المتبدل لهذه المنظمات فرض قيود تحد من احتمالات وآفاق اندلاع احتجاجات واسعة النطاق فى المغرب. على الرغم من أن هذا النوع من الحراك تسبب بتراجع حظوظ تنظيم احتجاجات حاشدة فى المستقبل، إلا أنه قد يساهم فى المدى الطويل فى تغير أنماط السلوك على مستوى القواعد الشعبية.