الحياة المتوازنة
محمد زهران
آخر تحديث:
الإثنين 20 فبراير 2017 - 4:34 م
بتوقيت القاهرة
يدور بخلد الكثيرين أنه لكي تصير عالماً يجب ألا تفعل شيئاً في حياتك سوى العلم، هذا ما صورته لنا أفلام السينما والروايات الملحمية التي تريد أن تصور العلماء الكبار وكأنهم ليسوا من هذا العالم فهذا يجذب المشاهدين والقراء أكثر من تصويرهم كأشخاص طبيعيين لهم إهتمامات أخرى بجانب العلم بل ونسمع قصصاً تروى عن عالم ذهبوا إلى معمله ليذكروه بحضور زفافه في تلك الليلة (قيلت في لويس باستور)!!
هل هذا يحدث فعلاً؟ وإذا كان يحدث فهل هو أفضل شيء لتقدم العلم؟
هل يحدث أن ينسى العالم كل شيء في دنياه ولا يتذكر ولا يهتم إلا بعلمه؟ نعم يحدث!
لنأخذ كمثال عالم رياضيات عظيم إسمه بول إرديش (تنطق هكذا مع أنها تكتب Paul Erdos )، في كتاب يحكى سيرته إسمه "الرجل الذى أحب الأرقام فقط" (The Man Who Loved Only Numbers) وله عنوان فرعى "قصة بول إرديش و رحلة البحث عن الحقيقة الرياضية" من تأليف بول هوفمان (Paul Hoffman)، ولد بول إرديش في المجر عام 1913 و توفى عام 1996 و بين هذا و ذاك غير وجه عدة أفرع من الرياضيات لدرجة أن الرياضيين لهم رقم يسمى رقم إرديش، إذا كنت قد نشرت بحثاً مع إرديش فتحمل رقم 1، أما إذا كنت قد نشرت مع من نشر مع إرديش فتحمل رقم 2، و هكذا ... و ذلك من فرط إعجابهم بهذه الشخصية!! بول إرديش عالم رياضيات لا يحتاج في أبحاثه إلا إلى ورقة وقلم، ومن كثرة حبه للرياضيات كان يعمل 19 ساعة يومياً! ولك أن تعلم أنه تقريباً لا يوجد له عنوان ثابت، بل كان يتنقل بين المؤتمرات المتخصصة في الرياضيات وينزل ضيفاً على أصدقاءه من الرياضيين في جميع أنحاء العالم! لعشقه الشديد للرياضيات لم يتزوج قط ولم يكون أسرة.
أهم ما كان يشغل بول إرديش هو نشر أبحاثه ليستفيد منها العلم، ولا غرو أنه عند مماته كان له أكثر من خمسمائة وألف (1500) بحث منشور!
هل تحب لو كنت مكان بول إرديش؟ قد يرد البعض بالسلب، هنا أوجه سؤالى لهؤلاء الذين أجابوا بالإيجاب: هل تريد ذلك من أجل الشهرة والجوائز؟ إن كان كذلك فأنت لست عالماً ولكن قد (وأقول قد) تكون بارعاً في فرع من فروع العلم وكفى وهذا معناه أنك إذا لم تحصل على التكريم الذي تسعى وراءه فستشعر أنك أضعت عمرك بدون فائدة وقد يقودك ذلك للإكتئاب ... أما إذا كنت لا تبحث عن الشهرة ولكنك تعشق هذا العلم الذي تتقنه يجب أن تضع في إعتبارك أن هذا قد يكون مثل حب الهواة الذين يتبخر حين يصير إحترافاً لأن حياتك صارت تعتمد عليه والضغط العصبي يقتل المتعة.
يأتي السؤال الثانى الذي نحاول الإجابه عليه في هذا المقال: هل من الممكن الوصول لهذا المستوى المرتفع في العلم دون أن تضحي بكل الأشياء الأخرى في حياتك؟ هل بول إيردش لم يكن ليصل إلى نجاحه هذا لو أنه صار له أسرة ومنزل وهوايات؟ الإجابة هي نعم من الممكن الوصول إلى هذا المستوى مع وجود حياة متوازنة، العالم الفيزيائي العظيم ريتشارد فاينمان كانت له أسرة وكان يتقن الرسم والعزف على الطبول، العالم المصري العظيم على مصطفى مشرفة كانت له أسرة وكان يجيد العزف على البيانو، ألبرت أينشتاين كانت له أسرة وكان يعزف على الكمان بغزارة، لينوس باولين حصل على جائزتي نوبل واحدة في الكيمياء والأخرى في السلام وهذا يعنى أنه كانت له إهتمامات سياسية!
إذا فمن الممكن جداً أن تكون لك إهتمامات أخرى بخلاف العلم وحياة متوازنة وتصل أيضاً إلى الذروة في مجالك العلمي.
هنا قد نتسائل: هل من يعمل 19 ساعة في اليوم بدون أيام للراحة كمن يعمل 10 ساعات في اليوم ويحصل على عطلته الأسبوعية؟ الإجابة هنا هي لا لأنه في بعض الأحيان من يحصل على راحة يكون ما يفعله في 10 ساعات أقيم ممن يعمل 19 ساعة بتركيز أقل لأن للجسم البشري طاقته ويجب إحترام ذلك ولن تجاملك قوانين الطبيعة لمجرد أنك عالم!
كيف إذا نجح بول إرديش؟ أليس ذلك برهاناً على عكس ما نقول؟ الإجابة هي ومن أدراك أنه لو عمل ساعات أقل وبحياة متوازنة لم يكن ليصل إلى نفس ما وصل إليه ولكن بحياة أكثر سعادة؟
في عام 2015 كنت أحضر مؤتمراً عن علوم الحاسب في ولاية أوراجون الأمريكية وكانت هناك محاضرة يلقيها مايكل ستونبريكر (Michael Stonebraker) الحاصل على جائزة تيورنج (Turing Award) عام 2014 وهى أرفع الجوائز في مجال الحاسبات قاطبة، وكنا نظن أن المحاضرة ستكون عن إكتشافاته في مجال التخصص وكان ذلك صحيحاً ولكن بطريقة لم نتخيلها، أخذ العالم الكبير يرينا على شاشة العرض الكبيرة صوراً لرحلة على الدراجات قام بها مع زوجته من الساحل الغربي للولايات المتحدة الأمريكية وحتى الساحل الشرقي، في أثناء هذه الرحلة كانوا يواجهون بعض المصاعب (السقوط من على الدراجة، إيجاد مكان للمبيت، ...) وفى كل واحدة من تلك المصاعب كان يشرح لنا تطور تفكيره في حل المشكلة العلمية التي أدت في النهاية لحصوله على الجائزة المرموقة!! حياة متوازنة ... وسعيدة!