صناع الجمال
جميل مطر
آخر تحديث:
الأربعاء 18 مارس 2015 - 10:20 ص
بتوقيت القاهرة
يوميا يتحفنا الصديق الرائع، انسانيا وثقافيا وسياسيا، نبيل عبدالفتاح بصور فوتوغرافية لمدينتى القاهرة والاسكندرية فى سنوات ما صار يطلق عليه الزمن الجميل. أعرف عن كثيرين، بخاصة من الشباب، والشباب فى حسابى لا يتوقف عند الثلاثين أو الأربعين وكثيرا ما أسمح له بأن يمتد حتى الخمسين، تستولى عليهم الدهشة عند مشاهدة هذه الصور. أما نحن فنتألم، لأننا رأينا وعايشنا واستمتعنا واشتقنا وبلغ الحنين بنا مبلغا. كان هناك بالفعل جمال فى المعمار، ونظافة فى الطرقات، واهتمام بالمرافق. نبالغ طبعا ولكن لا نعتذر. لم تكن كل القاهرة أو كل الاسكندرية على هذا الجمال الذى تتباهى به الصور. كانت القاهرة مدينتين أو قطاعين، وكانت الاسكندرية مدينتين أو قطاعين. ولكل مدينة أو قطاع شعبه والطبقة الخاصة به، الأجانب والطبقة الوسطى المصرية يسكنون القطاع الجميل وبقية المصريين والعمال الأجانب يسكنون القطاع الأقل جمالا.
•••
لا تعنى هذه القسمة، أن الجمال والرقى والنظافة صفات لصيقة بالأجانب الذين عاشوا بمصر، ولم تلصق بالمصريين. بكلمات أخرى، لا تعنى هذه القسمة أن المصريين لا يثمنون الجمال ولا يقدرون قيمته، دليلنا على أن مصريين أقدم ثمنوه وقدروا قيمته أحسن تقدير هو تلك الثروة من الجمال التى خلفوها فى قصورهم ومعابدهم ومقابرهم. درجنا على أن نحتفى بهذه الثروة لقيمتها الإنشائية والعلمية، ولكننا، وكذلك علماء الآثار والمؤرخون، لم نهتم كثيرا بجمالها كقيمة لا تقل سموا وروعة عن قيمتها الهندسية والفنية. مع مرور القرون وعلى أيدى من لا يفهمون ويقدرون تعلمنا كيف نتنكر للجمال وننغمس فى ممارسة القبح. تنكرنا للجمال حتى نسينا كيف يبدو رغم أنه كان فى أساسه صناعة مصرية.
•••
من أهم ما كشفت عنه الحفريات فى مقابر الفراعنة هذا الخليط الفريد والمتنوع من أدوات وعجائن وزيوت التجميل. عثر المنقبون على زيت الخروع الذى يستخدم حتى اليوم لحماية الجلد، وكريمات مصنوعة من شمع النحل وزيت الزيتون وماء الورد. تقول الموسوعات إن المصريين القدامى تعاملوا مع «الجمال» كرمز تقديس، واحترموا أدوات الزينة والتجميل لقيمتها الروحية. فكروا أنه ربما كان للدهون والزيوت المستخدمة فى زينة النساء والرجال قوة السحر لما تفعله فى تعظيم الجمال. أحسنوا ووفقوا حين ركزوا تركيزا شديدا على العيون فأبدعوا فى تزيينها وإعادة رسم العين على شكل اللوز، تشبها بعين الصقر عند الإله حورس. وكانوا يدهنون أسفل العينين باللون الأخضر المقدس لطرد الأرواح الشريرة .ونراه هذه الأيام وقد عاد يزين عيون النساء ليحفظها ويحفظهن من حسد الحاسدين.
تقول الأسطورة إن أول واجبات الميت عند البعث، وقبل أن يقدم نفسه للمحكمة فى قاعة العدالة، تطهير نفسه بأن يلبس ثيابا بيضاء ويدهن عينيه بالكحل الأسود. عندها فقط يحق له أن يدخل إلى رحاب أوزيريس. المغزى وراء هذه الطقوس هو أن الميت حين يبعث. يجب أن يكون فى أجمل صورة وأبهى تكوين. هكذا عرف المصريون الجمال على حقيقته دنيا وآخرة، عقيدة وقدسية وبابا إلى الجنة.
•••
أسأل، كما سأل جلال أمين وما يزال يسأل «ماذا جرى للمصريين؟» هم مسئولون بدون شك عما أصاب الجمال على أيديهم. ولكن يجب الاعتراف بأنهم تعرضوا لما تعرضت له شعوب أخرى حين هبطت على البشرية فى العقود الأخيرة موجة خبيثة تدفع إلى تقديس القبح.. موجة لم تستثن شعبا أو ثقافة، هجمت كاسحة فى طريقها تراثا من قيم جميلة وأخلاق جميلة وفنون جميلة. أزاحت فى زحفها طبقات من الجمال ساعية لإجبار إنسان الحداثة على أن يصلى فى محراب القبح ويكفر بالجمال. حاول معى أن نقارن بموضوعية المتذوق الأمين بين موسيقى حديثة وموسيقى أقدم، وبين شعب يحترم اتساق النغم وانضباطه فى موسيقاه وأغانيه وشعب يتننكر للتناغم والانسجام ويكاد يقدس فوضى النغم وقبح الصوت. حاول معى لكى نقارن بموضوعية بين لوحات رسم حديثة يزعمون أنها تمثل قوة التعبير وعظمته وبين لوحات قديمة تحترم قوة الجمال وروعته، وهكذا فى الخطابة والرواية والشعر، ابتعدوا عن الجمال وانشغلوا بأشياء أخرى.
•••
احتار الفلاسفة والعلماء فى فهم الجمال وتفسيره. هل الجمال موجود فعلا فى الطبيعة، وفى الحقيقة، وفى الأشياء التى نحبها، وفى المرأة التى نعجب بها. أم أن الجمال موجود فقط فى خيالاتنا. نحن من يقرر ما هو الجمال ونقرر أين وماذا ومن ينطبق عليه هذه الصفة. يرفض تيار من الفلاسفة للأسف أن يكون الجمال قرارا يصدره إنسان أو رأيا يختلف عليه بنى البشر، فالجمال فى رأى هؤلاء حقيقة موضوعية نراها جميعا ولا نختلف عليها، آخرون يعتقدون أن الجمال علاقة نسبية بين إنسان وإنسان آخر، أو بين إنسان وشىء ما، وفى كل الأحوال هى علاقة غير دائمة، فما نراه جميلا فى لحظة قد نراه بعد فوات اللحظة أقل جمالا أو فاقدا للجمال.
•••
الجمال، فى رأيى ومع احترامى لفلاسفة وحداثيين معينين، موجود فى الطبيعة كالكرم والطيبة بل وكالحقيقة. ولما كنا فى غالبيتنا العظمى نختلف حول وجود الحقيقة من عدمها، وحول طيبة شخص وكرم أخلاقه، فالطبيعى أن نختلف حول الجمال. ومع ذلك، أستطيع أن أؤكد استنادا إلى تجارب التاريخ وخبراتى الشخصية، أن رؤية الجمال والاعتراف بوجوده والاستمتاع به وحمايته، تعتمد جميعها على أساليب تنشئة فى البيت والمدرسة وأمام شاشة التليفزيون، والآن من خلال الآى باد
القبح صار غالبا والجمال نادرا. كثير من قادة الفكر والفن والتعليم والإعلام يشيعون الآن بيننا ثقافة القبح ويسخرون من ثقافة الجمال. يدربون النشء على تشويه كل ما هو جميل، كترديد أغانٍ هابطة وموسيقى نشاز وممارسة عادات سيئة وقراءة كتب وقصص تافهة القصد والمحتوى، يبررون لهم ولنا قذارة الطريق والبيت والمكتب، ويطلبون منا التساهل مع قبح الخطاب والكتاب والأغنية واللوحة، ويدفعوننا دفعا للتطبيع، تطبيع العيش مع القمامة والفساد والنفاق.
•••
لن يحل الجمال محل القبح إلا من خلال حملة تدريب وتلقين وتعليم. وأمامنا فرصة لن تعوض، فرصة توافر الحماسة والتمويل الضرورين لبناء مدينة مصرية كبيرة وجديدة، قد تصلح ذات يوم كمقر سلطة ومركز جامعات ومراكز فكر.
نستطيع، لو قررنا استعادة الجمال وعشقه إلى حياتنا، أن نشترط أن تكون المدينة جميلة، ونستطيع أن ننشئ، أثناء عملية البناء، جيلا يقدر الجمال كقيمة روحية ومعنوية غالية.بأن نبعث شبابا من المهندسين الجدد وطلبة الدراسات العليا فى كليات الهندسة والفنون الجميلة والفنون التطبيقية إلى الخارج ليدرسوا «علوم الجمال»، جمال المعمار وجمال الزينة وجمال التخطيط وجمال التشطيب وجمال الخلق. نستطيع تخصيص مدارس فنية تعمل من الآن لتخريج أنواع من عمال مهرة متخصصين فى فنون السباكة الحديثة وصيانة شبكات الكهرباء والصرف الصحى، بأساليب لا تشوه جمال المدينة الجديدة ولا تؤذى عين المواطن.
نستطيع أن نجعل من مشروع بناء عاصمة جديدة مشروعا أكبر وأعظم لصنع أمة أجمل أو على الأقل بيئة أقل قبحا.