ومضات من تجارب دولية لإدارة قطاع الأعمال العام
مدحت نافع
آخر تحديث:
الإثنين 18 مارس 2019 - 11:05 م
بتوقيت القاهرة
فى تقرير قديم نسبيا ولكنه الأكثر شمولا فى تجربته الإحصائية رصدت منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية نصيب قطاع الأعمال المملوك للدولة من اقتصادات دول آسيا، وأشارت إلى أنه يمثل نحو 30% من الناتج المحلى الإجمالى فى الصين، و 38% من نظيره فى فيتنام، ونحو ربع حجم الاقتصادين الهندى والتايلندى. هذا فضلا عن استحواذ القطاع على 15% من حجم العمالة فى الصين، و5% فى ماليزيا.. وتتفاوت النسب من دولة إلى أخرى، لكن يظل تأثير شركات قطاع الأعمال العام (public sector undertakings or enterprises) على الاقتصاد الآسيوى كبيرا من مختلف الزوايا.
بالنسبة لمجموعة دول «بريكس الموسعة BRIICS» (البرازيل، روسيا، الهند، إندونيسيا، الصين، جنوب إفريقيا) يشير تقرير لمؤسسة KPMG صادر عام 2014 إلى أن أكبر 2000 شركة حول العالم تنتمى 260 شركة منها إلى تلك الدول، وأن 123 شركة منها عبارة عن شركات مملوكة للدولة بنسبة 47% ! القيمة السوقية للشركات المملوكة للدولة فى مجموعة «بريكس» الموسعة تمثل نحو 32% من الناتج القومى الإجمالى لمجموع دول المجموعة.
خلال العقدين الماضيين حاولت بعض الدول المذكورة آنفا إصلاح وتنظيم مؤسسات الأعمال المملوكة للدولة عبر عدد من المبادرات التى تصب معظمها فى خلق كيانات قابضة تتبعها الشركات المملوكة للدولة من ذلك SASAC فى الصين عام 2003، وSCIC فى فيتنام عام 2007، و Druk Holding and Investment فى مملكة بوتان. وفى عام 2006 تصدت دولة الفلبين إلى حوكمة الشركات المملوكة للدولة عبر عملية تقييم شاملة لتلك الشركات. ومنذ عام 2004 تتبنى دولة ماليزيا برنامجا شاملا للتحول الاقتصادى لإصلاح قطاع الأعمال العام بها.. وتظل التجربة الصينية أكثر التجارب لفتا للانتباه واستحقاقا للدراسة بين كل ما سبق.
منذ الخمسينيات من القرن الماضى تقود شركات قطاع الأعمال العام النمو الصينى بشكل شبه منفرد. بنهاية حقبة الثمانينيات استحوذت تلك الشركات على 75% من الناتج الصناعى الصينى، مع العلم بأن القطاع كان يعانى صعوبات كثيرة نتج عنها تحقيق خسائر كبيرة بمعظم الشركات المشار إليها، عانى على أثرها الاقتصاد الصينى كله.
***
وقد شهدت حقبة التسعينيات موجة إصلاح واسعة وحادة للشركات المملوكة للدولة فى الصين عبر إجراءات الهيكلة المالية، وتسريح جانب كبير من العمالة، وتخفيض المديونيات، وإصلاح هياكل الملكية عبر الطرح العام والبيع لأطراف غير حكومية. مع بداية العقد الأول من الألفية الجديدة، وبينما وجدت الصين نفسها فى مواجهة منافسة عالمية ضارية بعد انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية، أصبحت الشركات المملوكة للدولة دعامة رئيسة لتميز الاقتصاد الصينى وكفاءته عالميا. وكما سبقت الإشارة تم تأسيس شركة قابضة تحت اسم «ساساك» SASAC (Stateــowned Assets Supervision and Administration Commission)
وتعنى لجنة إدارة والإشراف على الأصول المملوكة للدولة، وكان الغرض منها إدارة شركات قطاع الأعمال العام.
اليوم أصبحت «ساساك» بمثابة مؤسسة الشباك الواحد لإدارة الشركات العامة الهادفة إلى تحقيق الربح فى الصين، بداية من اتخاذ القرارات الاستراتيجية إلى وضع مستهدفات وتكليفات متوسطة الأجل، إلى اتخاذ قرارات الاندماج والاستحواذ.. إلى غير ذلك من قرارات.
وخلال الفترة بين 2001 و 2010 كانت طفرة قطاع الاعمال العام فى الصين كبيرة وغير مسبوقة بفضل هذا التنظيم الجديد، وقد رصدته ورقة لجامعة «كلجارى» من خلال تقدير ارتفاع مساهمة الشركات المملوكة للدولة فى الناتج المحلى الإجمالى الصينى من 8% إلى 10% وارتفاع قيمة أصول الشركات بأكثر من الضعف من نحو 500 مليون يوان إلى ما يقرب من 1.3 مليار يوان. مع هذا فإن تلك الأرقام المبهرة تخفى مساهمة تلك الشركات فى إبطاء نمو القطاع الصناعى خلال سنوات كثيرة من العقد ونصف العقد الماضيين، مثلا لنأخذ فترة محددة من عام 2014 الذى شهد نموا كبيرا للقطاع الصناعى الصينى، فقد تراجعت الأرباح فى الشركات الصناعية المملوكة للدولة بنسبة 0.2% خلال أول شهرين من 2014 مع نمو الأرباح الصناعية فى الصين بصفة عامة بنسبة 9.4% خلال ذات الفترة (وفقا لمكتب الإحصاءات القومية). بالتأكيد تظلم المقارنة قطاع الأعمال العام، حيث تتمتع الشركات الخاصة بفرص أكبر للنمو، نظرا لعدم تقيدها بكثير من الالتزامات القائمة فى الشركات العامة القديمة، ومنها التزامات تجاه العمالة، وتحقيق أهداف قومية... بالإضافة إلى قدرة الكيانات الحديثة على تحقيق معدلات نمو أكبر نسبيا من تلك التى تحققها الكيانات المتقدمة، يسرى ذلك على الدول والشركات وحتى البشر.
هنا يجب الانتباه إلى نموذج «ساساك» ومدى اقترابه من نماذج الشركات القابضة التى ينظمها قانون قطاع الأعمال العام 203 لسنة 1991 فى مصر، وربما من نموذج حديث يتم تطويره حاليا تحت مسمى صندوق مصر السيادى، وهذا سوف يتوقف على نطاق عمل هذا الصندوق والمطلوب منه فى ضوء تعامله مع الأصول المملوكة للدولة.
وهناك أيضا النموذج السنغافورى، فمنذ عام 1965 عمدت سنغافورة فى سبيل التعجيل بالنمو الاقتصادى إلى الاستحواذ على حصص متفاوتة من الشركات الخاصة، بما فى ذلك الشركات حديثة الإنشاء والمشروعات الناشئة! فى عام 1974 أنشئت شركة «تماسِك» Temasek لإدارة أصولها بشكل أفضل على أسس اقتصادية، مع عدم تدخل وزارة المالية فى إدارة تلك الأصول، وتفرغها لصناعة السياسات العامة.
فى البداية كانت المحفظة التى تديرها «تماسِك» تضم حصصا فى 35 شركة بقيمة 354 مليون دولار سنغافورى، وبعد الكثير من عمليات إعادة الهيكلة والخصخصة وصلت قيمة تلك المحفظة اليوم إلى ما يقرب من 308 مليارات دولار سنغافورى موزعة على استثمارات حول العالم، لا يتعدى نصيب سنغافورة منها 29% والباقى موزع بين الصين ودول آسيا وأمريكا الشمالية وأوروبا واستراليا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.
«تماسِك» هى الأخرى نموذج لإدارة أصول الدولة بكفاءة، وتعمل بحرية كبيرة ووفقا لتشريعات يسيرة ما إن توافرت للشركات القابضة فى قطاع الأعمال العام المصرى ستكون النتيجة مختلفة كثيرا عن الوضع الراهن، وستكون فرص النمو والنجاح أكبر.
***
أما الهند فقد تشابهت تجربتها من حيث النشأة مع التجربة المصرية وتزامنت معها إلى حد بعيد، نظرا لعدد من العوامل السياسية والإقليمية، والدور الذى لعبته حركة عدم الانحياز فى تنسيق السياسات بين البلدين. مرت شركات قطاع الأعمال العام أو المملوكة للدولة فى الهند بثلاث مراحل هى أولا: مرحلة النشأة والتأسيس خلال الفترة ما بين 1950ــ1969 وخلالها اعتزمت الهند التوسع فى تأسيس اقتصاد مملوك للدولة بغرض إقامة نهضة صناعية، وتوفير السلع الرأسمالية بصناعة محلية. ثانيا: مرحلة التأميم خلال الفترة ما بين 1969ــ1984 حيث سيطرت الشركات المملوكة للدولة على الاقتصاد بشكل شبه تام، وازداد عدد الشركات المملوكة للدولة من خمس شركات عام 1951 إلى ما يزيد عن 240 شركة بنهاية تلك المرحلة، وذلك عبر إجراءات وقرارات التأميم. ثالثا: مرحلة الإصلاح خلال الفترة من عام 1984 وحتى اليوم حيث تم توسيع ملكية العديد من الشركات المملوكة للدولة عبر طرحها فى البورصة، والسماح للقطاع الخاص أن يتملك ويشارك فى إدارة أصول مملوكة للدولة.
اليوم يوجد ما يزيد عن 300 شركة مملوكة للدولة فى الهند مقسمة وفقا لسقوف رأس المال وعدد من المعايير الأخرى، وهى جميعا تعمل فى مختلف المجالات. وتطمح الهند إلى توسع تلك الشركات فى مجالات التكنولوجيا الخضراء، والدفاع، والتصنيع والطاقة النووية، وليس ثمة نية للتخلص من الشركات المملوكة للدولة أو تصفيتها مع ما تحققه من نجاح ملموس فى مختلف القطاعات.
ختاما، لا تختلف مقومات نجاح الشركات المملوكة للدولة عن مقومات نجاح الاقتصاد بشكل عام. ولا يمتد أثر هيكل الملكية والإدارة الخاصة على تميز وتفرد القطاع الخاص، إلا بالقدر الذى تنجح خلاله أدوات الحوكمة والمحاسبة والإثابة والرقابة فى تحقيق النمو المستهدف. باختصار لا تخفق المؤسسات بشكل تام إلا إذا غابت إرادة الإصلاح.