في مئويتها: من أمثلة الاستمرارية في تاريخ الدبلوماسية المصرية
وليد محمود عبد الناصر
آخر تحديث:
الجمعة 18 مارس 2022 - 8:30 م
بتوقيت القاهرة
تحتفل مصر ويحتفل دبلوماسيوها هذه الأيام بمرور مائة عام على إنشاء وزارة الخارجية المصرية فى أعقاب تصريح 28 فبراير 1922، والصادر عن المملكة المتحدة قوة الاحتلال لمصر وسلطة الحماية عليها آنذاك، والذى أنهت بموجبه الحماية على مصر واعترفت باستقلال مصر وسيادتها، مع إبداء أربعة تحفظات، وهى: حق بريطانيا فى تأمين خطوط مواصلات إمبراطوريتها فى مصر، وحقها فى الدفاع عن مصر ضد أى اعتداء أو تدخل خارجى، وحقها فى حماية المصالح الأجنبية والأقليات فى مصر، وإبقاء الوضع فى السودان على ما هو عليه، أى استمرار فصل السودان عن عرش مصر من خلال استمرار الإدارة البريطانية المصرية المشتركة للسودان طبقا للاتفاق الثنائى لعام 1899 بين البلدين.
وفى تاريخ الدبلوماسيات فى أى من بلدان العالم، توجد عناصر تتصف بالاستمرارية وأخرى تتصف بالانقطاع، بينما هناك عناصر تتصف بالتذبذب ما بين مرحلة وأخرى، أو تبرز فى مرحلة وتختفى فى أخرى، وينطبق هذا أيضا بالضرورة على تاريخ الدبلوماسية المصرية التى لا تشكل استثناء من تلك القاعدة، وسوف نحاول هنا التعرض فقط لواحد من أمثلة الاستمرارية فى تاريخ الدبلوماسية المصرية، وسوف نبرهن على تلك الاستمرارية من خلال تتبع ورصد وتحليل استمرار توجهات الدبلوماسية المصرية عبر فترة ممتدة زمنيا وتاريخيا رغم تغير طبيعة وتركيبة وانحيازات النظام السياسى من مرحلة لأخرى وتباين القيادة السياسية من عهد إلى آخر.
والمثال الذى سوف نتناوله هنا يتعلق بمواقف الدبلوماسية المصرية الثابتة ضد سياسة الأحلاف فى زمن الحرب الباردة، منذ بداية ظهور تلك الأحلاف فى أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، وانقسام العالم المتقدم ما بين معسكرين أولهما غربى بقيادة الولايات المتحدة الامريكية واندرجت دوله فى إطار حلف شمال الأطلسى، والآخر شرقى بقيادة الاتحاد السوفيتى فى ذلك الوقت، واندرجت دوله فى إطار ما كان يعرف آنذاك بـ «حلف وارسو». واستمرت تلك المواقف الثابتة والمبدئية للدبلوماسية المصرية طوال الحرب الباردة التى انتهت فى مطلع العقد الأخير من القرن العشرين، وقد انطبقت تلك المواقف على جميع دوائر الانتماء والتحرك للسياسة الخارجية المصرية على مدى تلك العقود، بما سرى على أفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط وإقليم البحر المتوسط والعالم الإسلامى.
وقد بدأ تبنى هذا التوجه فى السياسة الخارجية المصرية عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية وظهور الإرهاصات والبواكير الأولى للحرب الباردة بين المعسكرين الغربى بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والشرقى (إشارة إلى شرق أوروبا) بقيادة الاتحاد السوفيتى آنذاك. ويمكن القول بشكل أكثر تحديدا أن هذا التوجه الوطنى المصرى أعلنته حكومة حزب الوفد التى وصلت إلى الحكم بعد انتخابات 1950، فى واحدة من أنزه الانتخابات النيابية فى تاريخ مصر فى عهد أسرة محمد على، حيث أعلن محمد صلاح الدين باشا وزير الخارجية فى تلك الحكومة آنذاك أن الحكومة المصرية تقف ضد سياسة الأحلاف بالمنطقة ولا تكتفى فقط برفض الانضمام إلى أى حلف يقام، فى إشارة إلى مساعى بريطانية وأمريكية آنذاك لإحلال الانتماء إلى أحلاف موالية للغرب، تحت مسميات مختلفة، لدى الدول العربية المستقلة حديثا فى ذلك الوقت محل الاحتلال الأجنبى، بحيث تقبل تلك البلدان بوجود قواعد عسكرية أجنبية، ويكون الفارق عن زمن الاحتلال الأوروبى هو أنه بدلا من أن تكون هذا القاعدة تحت سيطرة قوة الاحتلال الغربى تكون، من الجهة الرسمية والشكلية على الأقل، تابعة لتحالف تندرج فى عضويته من الناحية الرسمية بلدان عربية ودول إقليمية أخرى، ولكن بالتأكيد تكون الزعامة فيه والسلطة الحقيقية لاتخاذ القرار فى أيدى الدول الغربية الكبرى التى تقود تلك الأحلاف وتوظفها لتحقيق أهدافها الاستراتيجية والأمنية، بل وأيضا، وبما لا يقل أهمية، مصالحها الاقتصادية والثقافية.
وبالرغم من الكثير من الضغوط البريطانية والأمريكية التى مورست على حزب الوفد وحكومته فقد نجحت تلك الحكومة، وحتى إقالتها من قبل الملك السابق فاروق فى أعقاب حريق القاهرة فى 26 يناير 1952، فى الصمود فى رفضها التزام مصر بالانضمام لأى حلف عسكرى أو أمنى أو استراتيجى يقيمه الغرب فى سياق السعى لاحتواء توسع النفوذ السوفيتى إلى مناطق «البحار الدافئة»، وتمسكت بموقفها ذلك من خلال نظرة شاملة للمصالح الوطنية والإقليمية المصرية، وكان من الواضح أن وزير الخارجية محمد صلاح الدين باشا كان له دور محورى فى اتخاذ حكومة الوفد لهذا الموقف، كما أن كون الوفد هو حزب الأغلبية التقليدى فى الحقبة الليبرالية (1923 ــ 1952) جعله حريصا على التجاوب مع حركة الشعب المصرى آنذاك؛ حيث خرجت المظاهرات منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ترفض سياسة الأحلاف الغربية وتدعو الحكومات المصرية المتعاقبة إلى الابتعاد بمصر عنها.
وبعد ثورة 23 يوليو 1952، نجد أنه منذ وقت مبكر كانت قد بدأت تلوح فى الأفق بوادر توجهات للقيادة السياسة الجديدة تجاه موضوع الأحلاف لا تختلف كثيرا عن توجهات القيادة الوفدية، وجسد تلك التوجهات على صعيد العمل الدبلوماسى المصرى الراحل الكبير الدكتور محمود فوزى والذى شغل منصب وزير الخارجية والمسئول عن مؤسسة الدبلوماسية المصرية لسنوات طويلة خلال الحقبة الناصرية. ومن الصحيح أن المشهدين الإقليمى والدولى ازدادا تعقيدا، بما فى ذلك ما يتعلق بمسألة الأحلاف، خلال سنوات ما بعد ثورة يوليو مقارنة بما قبلها، إلا أن الثبات بقى سائدا فى توجهات الدبلوماسية المصرية إزائها ما بين فترة حكم حزب الوفد، صاحب القاعدة الجماهيرية الأوسع فى النظام السياسى قبل 1952، وفترات حكم أربع رؤساء جمهورية توالوا على حكم مصر حتى نهاية الحرب الباردة فى ظل النظام السياسى الجديد، آنذاك، والذى أرست دعائمه ثورة يوليو والتطورات اللاحقة عليها فى عهود الرؤساء الراحلين محمد نجيب وجمال عبدالناصر ومحمد أنور السادات ومحمد حسنى مبارك.
وقد حدثت تلك الاستمرارية، على الرغم من حقيقة أن السياسات الخارجية للرؤساء الأربعة قد اختلفت فيما بينهم فى بعض جوانبها، ولكن بقى الحرص على عدم الدخول فى أى أحلاف مرتبطة بهذا المعسكر أو ذاك فى زمن الحرب الباردة. كما حدثت تلك الاستمرارية مع أن أنماط التقارب مع أطراف دولية وإقليمية قد اختلفت، ليس فقط بين حقبة حكم رئيس وحقبة حكم رئيس آخر ولكن ايضا فى حقبة حكم نفس الرئيس من فترة إلى أخرى. إلا أنه فى كل الأحوال، فإنه حتى عندما تقاربت مصر مع الاتحاد السوفيتى فى غالبية الحقبة الناصرية فإنها لم تفعل كما فعلت دول أخرى فى أمريكا اللاتينية وآسيا، ولاحقا أفريقيا، فى طلب الانضمام إلى حلف وارسو، وعندما تقاربت مصر مع الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية الأخرى بدءا من فترة ما بعد حرب أكتوبر 1973، فإنها أبدا لم تذهب إلى حد الانخراط فى أحلاف تحت المظلة الغربية، بل كانت فى مختلف تلك المراحل إحدى الدول المؤسسة والقائدة لحركة عدم الانحياز، التى كانت تعبر عن ضمير بلدان الجنوب النامية بل كانت فى العديد من المناسبات وأمام عدة اختبارات هى الضمانة ألا تتحول حركة عدم الانحياز إلى أداة فى يد هذا المعسكر أو ذاك، ومن هنا اكتسبت مصر ودبلوماسيتها المصداقية من جهة والقدرة على الفعل والتأثير من جهة أخرى على الأصعدة الدولية والإقليمية على حد سواء، وبقيت محافظة على نفس التوجه العام، ربما مع اختلافات جزئية وفى التفاصيل هنا وهناك ما بين حقبة وأخرى، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، بشأن رفض الانضمام للأحلاف المنضوية تحت مظلة الحرب الباردة وصراع النفوذ والمصالح بين المعسكرين الغربى والشرقى، بل والوقوف على النقيض من فكرة الأحلاف فى ذلك السياق، والتعبير عن هذا الموقف وحشد وتعبئة الدعم له فى المحافل الإقليمية والدولية المختلفة.
وهذا هو مثال واحد فقط على عناصر الاستمرارية فى سياسة مصر الخارجية وتوجهات دبلوماسيتها النشيطة، على الرغم من تعاقب وتغير أنظمة سياسية مختلفة وحكام متعددين فى الزمن التاريخى المشار إليه فى هذا المقال.