الحشاشون الباطنية
مدحت نافع
آخر تحديث:
الإثنين 18 مارس 2024 - 6:55 م
بتوقيت القاهرة
كنت أشاهد مسلسل القاهرة كابول لصاحبه الكاتب الشهير عبدالرحيم كمال. كان ذلك فى شهر رمضان الموافق لشهر أبريل من عام 2021. استوقفنى فى حوار أبطال المسلسل انتقاص من كتاب الملل والنحل للشهرستانى، باعتباره من الكتب المفضّلة عند الغلاة والمتطرفين! كتبت حينها على صفحتى فى موقع «فيسبوك» ما نصه «الملل والنحل للشهرستانى من الكتب الموسوعية التى تغيظ المتطرفين، وتكشف أنهم لم يأتوا بجديد، وأن كثيرًا من الفتن قد اشتعلت لأسباب دنيوية.. وهو من الكتب التى تعلّم الناس أصول وأسباب الفرقة ونشأة المذاهب والفرق فى الإسلام.. لماذا شهّر به فى القاهرة كابول؟!».
تمر بضعة أعوام، ليكتب المؤلف ذاته عملًا تاريخيًا عن واحدة من الفرق الشيعية الإسماعيلية المعروفة بالباطنية، والتى برز منها «الحشاشون» التابعون لحسن الصباح. المفارقة فى الأمر أن الكثير من تفاصيل العمل الدرامى لا بد وقد انتهلت من كتاب الشهرستانى، أو من الكتب التى اتخذته مرجعًا. وظنى أن الأستاذ عبدالرحيم كمال قد عاد إلى الكتاب الذى حط منه آنفًا، وأراد إنصافه بهذا العمل. لكن الملفت أيضًا أن العمل الدرامى فيه بعض ملامح «القاهرة كابول» (والذى للأمانة لم أتابع سوى القليل من حلقاته)، حيث اختار المؤلف مجلسًا لنفر من الأصحاب جمعتهم سذاجة الطفولة وفطرتها، وفرقتهم بعدها الاختيارات والمذاهب، ليكون مجمع شتات الأحداث، تمامًا كما حدث من رؤية المؤلف مع «حسن الصباح» و«نظام الملك» و«عمر الخيام» فى مسلسل «الحشاشين».
وعلى الرغم من النقد الذى وجّهه البعض لهذا العمل الدرامى الحديث، والذى مداره التباس أحداث تاريخية، وانتحال صداقات غير واقعية، وشكل عمارة المدن، وبث الخرافات والسحر.. فقد أثبت المسلسل بعد مرور أيام قليلة من الشهر الفضيل، أنه أفضل الأعمال الدرامية المتاحة وأحقها بالمتابعة، لما فيه من إمكانات وإبهار، خاصة أن هناك مساحة للإبداع لا يجوز أن تنتزع من قلم المؤلف، متى أراد أن ينحرف عن بعض التفاصيل التاريخية، والتى لم تكن فى الأساس محلًا لإجماع المؤرخين. أما أنا فكنت أرى أن العربية الفصحى كانت أكثر مناسبة لهذا العمل الدرامى من اللهجة العامية، التى أعشقها بحكم كتابتى للزجل. لكن العامية المصرية الحبيبة تبقى محدودة فى التعبير عن حال أهل ذلك الزمان، متهمة بفقر المفردات وحداثة الدلالات، بما يقلل من هيبة الأشخاص وصرامة الأحداث. كما أن للفصحى حلاوة وهيبة، وهى وإن لم تكن لغة أهل الأنحاء التى وقعت فيها معظم الأحداث، فإنها لغة العلماء والفقهاء الذين هم أبرز شخوص العمل، ولغة الدواوين والمجالس التى هى مركز الأحداث، ولغة القرآن الذى هو مبتدأ كل شىء، والكتاب الذى تعمد الباطنية إلى تأويله، «وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون فى العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا».
• • •
اختلفت الفرق الشيعية حول تسلسل الإمامة ومراتب الأئمة، فمنهم الغلاة الذين ارتقوا بالإمام إلى صفات غير بشرية، ومنهم من غيّبه تقية وأظهره كرامة.. وهو باب تكثر فيه الخرافات والبدع. أما الإسماعيلية فقد امتازوا عن الموسوية (نسبة إلى موسى الكاظم) والإمامية الاثنا عشرية بأنهم أثبتوا الإمامة لإسماعيل بن جعفر الصادق، وهو الإمام السابع الذى تتم به دورة كاملة، وتبدأ دورة جديدة مع ابنه وخليفته محمد.. وفى معتقدهم، لن تخلو الأرض من إمام حى قائم، إما ظاهر مكشوف وإما باطن مستور. فإذا كان الإمام ظاهرًا يجوز أن تكون حجته مستورة، وإذا كان باطنًا فلا بد أن يكون دعاته وحجته ظاهرين. وقالوا إنما الأئمة تدور أحكامهم على سبعة (ولذا سموا بالسبعية)، أما النقباء فتدور أحكامهم على اثنى عشر نقيبًا، وهذا فى معتقدهم ما التبس على الاثنا عشرية. وقد عرف «الباطنية» بهذا الاسم لحكمهم بأن لكل ظاهر باطنًا، ولكل تنزيل تأويل. وللباطنية ألقاب كثيرة، فقد عرفوا فى العراق بالباطنية والقرامطة والمزدكية، وعرفوا فى خراسان بالتعليمية والملحدة.. أما هم فيقولون نحن إسماعيلية.
أما حسن الصباح فهو مؤسس وزعيم طائفة الحشاشين، وهم جناح من الإسماعيلية النزارية، أقاموا فى بلاد فارس. والده من شيعة الكوفة بالعراق، ويُقال إن أصله من اليمن. سكن مدينة «قم»، حيث ولد ابنه حسن، ثم انتقل إلى مدينة «الرى» قرب طهران، وكانت آنذاك مركزًا إسماعيليًا مهمًا. تأثّر حسن الصباح بعميرة زاراب، وهو أحد دعاة الإسماعيلية، وأقسم يمين الولاء للإمام الفاطمى. غادر الرى عام 1076 إلى أصفهان فأذربيجان، ومنها إلى العراق فسوريا، ووصل مصر عام 1078، حيث استقبل بحفاوة بالغة، ومكث فيها ثلاث سنوات.
يذكر أنه اختلف مع أمير الجيوش الذى سجنه ثم طرده من مصر، التى عاد منها إلى أصفهان لنشر دعوته والتركيز على أقصى الشمال الفارسى، خاصة إقليم الديلم، نظرًا لصلابة سكّانه ووعورة أراضيه.
وصف فى الملل والنحل بأنه «الحسن بن الصباح الاسماعيلى الملقّب بالعبّاد صاحب الدعوة النزارية، وجد أصحاب قلعة الموت (مشتقة من ألوه آموت أى عش العُقاب أو تعليم العٌقاب بلغة الديلم)، كان من كبار الزنادقة ومن دهاة العالم« ويقول عنه ابن الأثير، صاحب الكامل فى التاريخ: «كان الحسن بن الصباح رجلا شهما كافيا عالما بالهندسة والحساب والنجوم والسحر وغير ذلك».
تحصّن حسن الصباح بالقلاع، واستقر فى دمغان من أعمال قزوين، وبدأ يرسل الدعاة لنشر أفكاره فى القرى المحيطة بقلعة «لاماسار»، ثم تمكّن من التأثير على بعض حماة القلعة فدخلها سرًا واستكثر من الأنصار، حتى إذا ما علم بشأنه مالك القلعة لم يتمكن من طرده، ورضى بتسليمه إياها نظير ثلاثة آلاف دينار.
كان أول ضحايا الحشاشين مؤذنًا من سافا رفض الاستجابة لهم، ولما علم نظام الملك بذلك أمر بإعدام زعيم الإسماعيليين فى الأنحاء واسمه طاهر، وهو أول إسماعيلى يعدم وفقًا لابن الأثير. ثم أثناء حصارهم بقلعة الموت، دبّر الحشاشون عمليات اغتيالات ضد السلاجقة، كان ضحاياها من علماء السنة «عبيد الله الخطيب» قاضى أصفهان وقاضى نيسابور والوزير احمد ابن نظام الملك (لكنه نجا من الموت) والعديد من العلماء والشخصيات البارزة. وامتدت اغتيالاتهم لما بعد حسن الصباح، ولما أبعد من الأراضى الفارسية حتى إنهم كانوا يغيرون على الحجيج ويقتلونهم وينهبون قوافلهم، كما حاولوا اغتيال صلاح الدين الأيوبى. ورغم أن مقتل الوزير نظام الملك كان على يد صبى ديلمى من الباطنية، فإن ابن الأثير يذكر خلافًا حادًا بينه وبين السلطان «ملكشاه» قتل على أثره بتدبير ما، ثم لحق به السلطان بعدها بأسابيع وانهارت الدولة.
• • •
المتأمل فى تاريخ تلك الحقبة من القرن الخامس الهجرى وما تبعها، يجد أنها كانت حقبة دموية بصفة عامة، وأن القتل كان سنّة عادية يمارسها الجميع ضد أقرب الناس إليهم. يجد بلاط الملوك والسلاطين كان مخضبًا بدماء الخصوم والمشتبه فى ولائهم. تلك اللعنة الدامية التى أصابت ديار الإسلام منذ الفتنة الكبرى، كانت لها تجلياتها الموروثة فى كثير من الفرق والمذاهب، التى اتخذت العنف سبيلًا لنشر المذهب ولتهذيب وتطهير خصومه.
كذلك فإن الفتن وكثرة الانقسامات وضعف الدولة المركزية (العباسية حينها) كان سببًا فى انتشار الفقر والمجاعات وغلاء الأسعار فى عدد من الحواضر المهمة ومنها مصر. وقد صارت تلك الحواضر بيئة خصبة لنمو وانتشار المذاهب والفرق المتطرفة، ومنبتًا للخرافات والدجل، مما يؤلَف به قلوب العوام ويجنّد به الفتيان، خاصة فى فترات الضعف والهزائم والجوع، التى تحض على الكفر بكثير من الثوابت.
• • •
لم يكن الحشاشون إذن مغردين خارج السرب، بل كانوا من أصل وطينة تلك المجتمعات والبيئات القاسية الظالمة. طوّروا أفكارًا شاذة يمكنها أن تقاوم الشدائد الاقتصادية والمظالم المذهبية، كما طوّروا أدوات عنيفة تصلح لذلك العصر الذى أريق فيه من الدماء ما خضّب الأنهار. وسواءً أكان «الحشاشون» يتعاطون مخدّر «الحشيش» ليهيئ لهم مشهدًا للجنة الموعودة، قبل أن يهبطوا من قلعتهم لتنفيذ عمليات الاغتيال الانتحارية بأمر من الزعماء، أو أنهم أكلوا الحشائش جوعًا لدى حصار السلاجقة لهم، فإن الأمر سيان، تلك فرقة أسست على عقيدة فاسدة فى بيئة فاسدة، مستخدمة أدوات عنيفة، مستبيحة الدماء والأعراض لبلوغ غايات ظنية لا وجود لها فى الأديان.
وإذا كانت الباطنية قد انحسرت وتراجعت مخاطرها، اليوم، فإن انتشار الجهل والفقر ومظالم العدوان الخارجى قد أنتج فرقًا حديثة لا تقل خطورة: مثل الإخوان المسلمون والتكفير والهجرة والجهاد والفرماوية والسماوية والشوقيين وطلائع الفتح والوعد وجيش عدن أبين وحركة المجاهدين وجيش محمد.. وأشباه الدول مثل تنظيم القاعدة وتنظيمات داعش فى آسيا وأفريقيا.. وغيرها من فرق وتنظيمات تعتمد العنف سبيلًا لبسط النفوذ والسيطرة والفكر المنحاز أو المنحرف. السبيل الوحيد للتخلّص من تلك الجماعات هو بتجفيف منابعها، وهو الأمر الذى قد يتحقق مرحليًا بالملاحقات العسكرية والأمنية والتضييق الاقتصادى.. لكنه لن يستدام أبدًا إلا ببسط العلم ونشر الوعى ومقاومة أسباب الظلم والقهر والفقر والمرض.