التغيير القادم: مؤشرات من وحى مؤتمر عسكرى
جميل مطر
آخر تحديث:
الخميس 18 أبريل 2013 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
صورة مصر من الخارج أوضح وأحلى. أوضح لأنها تخفى التفاصيل. نحن هناك لا نرى التفاصيل وربما لا نريد أن نراها ليس فقط لأنها صارت ترهقنا ولكن أيضا لأن أكثرها يزيدنا إحباطا. وهى أحلى لأننا عندما نكون فى الخارج، ننظر إلى مصر بعيون ونفوس راضية، نراها كما نتمنى أن تكون.
كنت فى لبنان قبل أيام. وفى لبنان كما فى مصر وغيرها من بلدان المنطقة، التفاصيل مرهقة، أو هكذا تعودت أن أسمع من أهلها. كنت أحلم بلحظات أقضيها هناك أختلى فيها بمصر عن بُعد، عسانى أرى الحقيقة خالية من عناصر التشويه والإثارة والكذب وضبابية الرؤية وندرة الكفاءة التى أصابت الجسم السياسى. عقدت العزم على أن «أحصن» الزيارة ضد الجهود التى سوف يبذلها أصدقاء لبنانيون لإقناعى بأن أحوال لبنان كالعادة سيئة، فالأخطار محدقة به وطوائفه متنافرة ومستنفرة، وجيشه مستنزف ومستهدف، ومصر المنهكة تخلت عنه.
●●●
لم أصدق عينَىَّ وأنا فى القاهرة أقرأ رسالة الدعوة للمشاركة فى مؤتمر يعقد فى بيروت. تعرفت فى حياتى العملية، سواء خارج مصر أو داخلها، على عدد غير قليل من رجال القوات المسلحة، سواء فى مؤتمرات تناقش استراتيجيات إقليمية ودولية، أو فى صالونات عصف فكرى وحوارات أكاديمية وعلى هامش محاضرات تلقى فى كليات أركان الحرب، وبين هؤلاء تعرفت على عسكريين لبنانيين فى عهود ومراحل مختلفة. لذلك لم تفاجئنى الجهة الداعية، وهى فى هذه الحالة الجيش اللبنانى. ما فاجأنى كان موضوع المؤتمر الذى أدعى للمشاركة فى أعماله، وهو الصراع السياسى والعسكرى فى سوريا، وآفاق التسوية المرتقبة. أن تختار جهة فى لبنان، والجيش اللبنانى تحديدا، سوريا موضوعا يتناقش فيه المدعوون ويبدون رأيهم بصراحة وشجاعة، أمر لم يخطر على بالى أن يحدث وأكون شاهدا عليه.
●●●
ما أبعد اليوم عن البارحة، وفى الوقت نفسه ما أبعد الحال فى لبنان اليوم عن حاله بالأمس. لم أتردد طويلا فى القفز إلى نتيجة مؤداها أننى مقبل على زيارة للبنان تختلف شكلا وجوهرا عن زيارات عديدة سابقة، سواء تلك التى قمت بها حين كانت تستقبلنى فى مطار بيروت وشوارعها الرئيسية صور «الزعيم الراحل» حافظ الأسد، أو تلك التى كان يغمرنى خلالها الأصدقاء اللبنانيون بالشكوى من سوء الأحوال والفوضى الأمنية وتمترس الشباب المسلح استعدادا لمعارك قادمة.
●●●
اختلف لبنان فى هذه الزيارة عن لبنان فى زيارات سابقة فاختلفت انطباعاتى وبعضها أستطيع أن أوجزه فى عبارات وعناوين قصيرة ولكن موحية. رأيت مثلا الجيش اللبنانى كما لم أره من قبل. أذكر قبل عقود، كيف كنا نتعامل، كدول ومؤسسات ومتخصصين، مع الجيش اللبنانى باعتباره جيش مارونيا. جيش لطائفة وتشكله طائفة. ورأيته فى مراحل أخرى وتعاملنا معه باعتباره جيشا تابعا لجيش الاحتلال السورى. هذه المرة اختلف الأمر إذ وجدت نفسى ومعى كثيرون نتعامل معه كجيش لبنان الوطنى، بما تحمله كلمة «الوطنى» من معان عديدة ومعتبرة، أهمها معنى الجيش الواثق من نفسه، المطمئن إلى ما يريد والمستعد لرفض ما لا يريد فى حدود الممكن. سمعت من بعض قادته كلمات تؤكد الحرص على منع تحقيق الكابوس الذى «بشر» به الرئيس بشار الأسد منذ اليوم الأول للثورة السورية حين قال إنه يرى عن بعد حريقا هائلا فى المنطقة بأسرها. يومها كان ظنا سائدا أن لبنان سيكون أولى الضحايا.
سمعتهم، وسمعت من الأجانب والعرب من يدعم الأمل البادى بوضوح فى كلماتهم وقناعاتهم، يؤكدون أنه لا دولة أجنبية أيا كانت تريد المساس بالجيش اللبنانى، وأنه لا أحد أو جهة لها قيمة فى لبنان تتمنى لجيش لبنان الجديد الضعف. الجميع فى لبنان وكثيرون من خارج لبنان، أشادوا بنجاح الجيش فى التعامل مع صراعات التيارات الدينية المتشددة، القادمة من سوريا وغيرها أو المقيمة فى لبنان، وفى التعامل مع شرارات تهدد «التعايش الطائفى» فى شمال لبنان، وسمعت من يثنى على دعم الجيش أو تبنيه لسياسة النأى بلبنان عن تشابكات المسألة السورية وتعقيداتها. حجته القوية، التى إن دلت على شىء فإنما على درجة عالية من «النضج السياسى والاستراتيجي»، هى أن مصلحة لبنان تفرض على هذا الجيش المساهمة قدر الممكن فى جهود المحافظة على الكيان السياسى السورى متمثلا فى دولة مستقلة وموحدة.
●●●
على صعيد آخر، فاجأ اللبنانيون العالم الخارجى حين سلموا فى هدوء بسقوط حكومة نجيب ميقاتى وحين باركوا، أيضا فى هدوء، ترشيح تمام سلام رئيسا لحكومة يقوم بتشكيلها. لم تقتصر المفاجأة السارة على هدوء وسلاسة عملية الانتقال، بل امتدت إلى نواحٍ جديدة لا تقل أهمية، فالمرشح عن الطائفة السنية يأتى هذه المرة بدون ضغط إقليمى ودولى شديد، كما جرت العادة، وان بموافقة سعودية ضرورية فى كل الأحوال.
أثارت سلاسة الانتقال اجتهادات شتى، ولكن أغلب الاجتهادات لم تجد الدليل الملموس الذى يسندها، وإن عبرت عن حد أدنى من توافق الرأى السياسى العام. من هذه الاجتهادات على سبيل المثال الاجتهاد القائل بأن لإيران دورا مهما فى تحقيق الانتقال من حكومة إلى أخرى بهدوء فى هذه الظروف الدقيقة التى تمر بها المفاوضات الأمريكية الإيرانية وجهود التهدئة الإيرانية فى علاقاتها بالعرب. منها أيضا الاجتهاد بأن «مصلحة وطنية» نشأت وتزداد رسوخا لتجعل «قرار الحرب والسلم حصريا للدولة» الزاوية الأساسية فى بناء لبنان المستقبل وحمايته من الغليان الإقليمى. أتصور أن المغزى وراء انتشار هذا الاجتهاد يكمن فى الخوف من انتقال الصراع من سوريا إلى لبنان، من ناحية أخرى، تأكدت نية الجيش والرئيس على التمسك بسياسة النأى بلبنان عن الحال الإقليمى بأسره، وبخاصة بعد التردى الذى أصاب مكانة مؤسسة القمة العربية فى مؤتمرها الأخير.
●●●
حفلت الجلسات واللقاءات الجانبية خلال انعقاد المؤتمر الثالث للجيش اللبنانى، وعنوانه «العالم العربى: ديناميات التغيير»، بحوارات حول قضايا أخرى لها صلة بالأوضاع فى سوريا ولكن أيضا بالأوضاع الإقليمية بشكل عام. وأشير هنا بإيجاز شديد إلى موضوعات أثارت اهتماما خاصا لدى المشاركين الأجانب إلى حد جذب انتباهى وانتباه مشاركين آخرين من جنسيات عربية وباكستانية وتركية.
بدا واضحا من خلال المناقشات أن ما كان يطلق عليه الصراع بين المسلمين والمسيحيين فى الشرق الأوسط انزاح جانبا لصالح ما صار يطلق عليه صراعات الإسلاميين. ذكر أحد المشاركين من دولة غربية كبرى، أن ما يشغل الغرب حاليا وسيشغله لسنوات طويلة مقبلة هو الصراعات بين المذاهب الإسلامية فى الشرق الأوسط وبعضها يتدهور الآن إلى حدود خطيرة. كنت قد لاحظت فى مؤتمرنا هذا كما فى غيره أن الصراع الإسرائيلى العربى لم يعد يحظى بأهمية تذكر، وبالتأكيد ليس بالقدر الذى يحظى به الصراع بين السنة والشيعة وبين الإخوان والسلفيين وبين السلفيين وبعضهم البعض. وقد وردت فى مداخلة لأحد المشاركين المطلعين أنباء عن نشاط واسع تقوم به روسيا داخل التيارات الإسلامية، وهو ما كشفت عن جانب منه الزيارات التى نظمتها موسكو مؤخرا لقيادات فى المعارضة الشيعية فى البحرين.
●●●
كان طبيعيا ان يكون الغاز فى شرق المتوسط الموضوع الثانى المؤهل لاحتلال مكانة متميزة فى اهتمامات المشاركين الأجانب والعرب وبخاصة العسكريون منهم. لم يكن عندى أدنى شك فى أن يحتل الغاز هذه المكانة بعد أن تراكمت التقارير عن أن قضايا استخراج الغاز وتكريره وتمويله ونقله ستحتل فى الأسابيع القادمة أسبقية على غيرها من موضوعات السباق والصراع فى الشرق الأوسط. هناك من يقول إنه تعقيد جديد يضاف إلى تعقيدات الصراعات القائمة كالصراع العربى الإسرائيلى، وهناك على العكس رأى يقوده الغربيون يعتقد ان الغاز، بعائداته وتعدد شبكات وخطوط التداخل بين شركات استخدامه وتسويقه وكذلك تعقيدات خرائطه، سوف يقلل من خطورة وأهمية الصراعات القائمة، ومنها الصراع على سوريا وعلى قبرص وعلى فلسطين. ولدى بعضهم الدليل فى الاتصالات الجارية حاليا بين عواصم دولية وإقليمية متعددة لوضع صياغة جديدة للمبادرة العربية للسلام التى صدرت عن قمة بيروت تنقل الصراع العربى الاسرائيلى إلى مستوى جديد تماما، ولديهم الدليل الآخر فى مظاهر الحشد الدبلوماسى للاقتراب من حل المعضلة السورية.
سمعت فى المؤتمر رأيا أمريكيا يتفاءل باكتشافات الغاز لأنها حسب قول صاحب الرأى، «ستدفع بلبنان وغيره من دول شرق المتوسط إلى الإسراع بتطبيع علاقاتها بإسرائيل باعتبار أن غالبية الحقول مختلف على ملكيتها وجنسياتها، الأمر الذى سوف يجبر الجميع على الانضمام إلى شبكة مفاوضات مكثفة وممتدة. سمعت أيضا من يطمئن المسئولين اللبنانيين إلى أن «الغرب سيحفظ لهم حقوقهم فى الغاز إن هم دخلوا مبكرا فى هذه المفاوضات»، وقد نقل أحد المشاركين من الأجانب عن الإسرائيليين ثقتهم فى أن إسرائيل جاهزة لرسم الحدود المائية المتعلقة بحقول الغاز من خلال مفاوضات مباشرة تبدأ فورا».
●●●
رأيت لبنان يجرب التفاؤل. سمعت عن توقعات بأن يحظى لبنان ببعض ثمرات الربيع العربى دون أن يدفع فيها ثمنا كبيرا كالثمن الذى دفعته شعوب أخرى فى المنطقة، وسمعت من يتمنى أن يكون لسوريا جيش قوى يضمن استقرارها ويحمى حدودها ويقضى على قوى التطرف والتعصب، ولاحظت كيف أن مبعوثى الدول الغربية الكبرى لديهم نفس الأمنيات استنادا إلى أن الدول العربية التى حافظت على هيبة جيوشها ووحدتها استطاعت أن تحمى مؤسساتها من الانهيار خلال ثورات الربيع.
رأيت لبنان يجرب السعادة والانشراح، ولكن غير مصدق. ها هو الغرب كله وروسيا يحتضنون لبنان بدفء وحنان، وها نحن أمام مشهد لإجماع إقليمى مصمم على مساعدته للنأى بنفسه عن قضايا الإقليم وخلافاته. وها هو لبنان يستعد بالأمل لطفرة فى الطاقة وعائداتها وانفراجه اقتصادية صارت تلمح بها مراكز التمويل فى غرب أوروبا. كل هذا فى سياق هدوء داخلى وتوافق سياسى يتقدم باستمرار وإجماع دولى على منع انفراط سوريا أو سقوطها كدولة، وهو غاية المراد للبنانيين.. رئيسا وشعبا وجيشا.