الأسد والثعلب فى الصراعات العربية
مصطفى كامل السيد
آخر تحديث:
الإثنين 18 مايو 2015 - 8:45 ص
بتوقيت القاهرة
هل يمكن لرجل الدولة أن يعول على القوة المسلحة وحدها أداة لبلوغ أهداف دولته فى الخارج أو الداخل؟ لاحظوا أعزائى القراء أن تعبير رجل الدولة هنا ينصرف إلى كل من يصنعون سياسة الدولة، وليس فقط شخص الرئيس، سواء كان رئيسا للدولة أو للحكومة.
كما أن المقصود بالسؤال هنا هو رجل السياسة الحصيف الرشيد والذى ليس مفتونا بالقوة الغاشمة تغنيه عن غيرها من الاعتبارات، والذى لا يسعى فقط لبقائه على أعلى مراتب السلطة، ولكنه يسترشد بغايات قومية تتجاوز شخصه. هناك وجهات نظر متعارضة تقدم إجابات على هذا السؤال. الزعيم الصينى الراحل والذى قاد نضال الشعب الصينى ضد الاحتلال اليابانى وضد حكومة الكومنتانج الرجعية هو صاحب المقولة الشهيرة أن القوة تنبع من فوهة البندقية. وفى تسعينيات القرن الماضى جاهر المحافظون الجدد بأن الولايات المتحدة يجب أن تعتمد على القوة العسكرية وحدها لتكرس انفرادها بالسيطرة على العالم، وذلك بالقضاء على أى مصدر لتهديد هذه المكانة سواء على الصعيد الإقليمى أو الصعيد الدولى. وقد اعتبروا أن إعلان الولايات المتحدة فى ظل إدارة الرئيس ريجان امتلاكها القدرة على وقف ضربة مضادة سوفيتية على مبادرتها بشن حرب نووية هو الذى أدخل القطب المناوئ لها فى سباق تسلح أفضى فى النهاية إلى تنازلات جوهرية فى مفاوضات وقف التسلح النووى ثم إلى تراجع اقتصادى أدى إلى تفككه ومعه الكتلة الاشتراكية التى كانت تخضع له. ومازال لفكر المحافظين الجدد فى الولايات المتحدة أنصار يعيبون على الرئيس أوباما عدوله عن أفكارهم بعد التجربة المهينة لاحتلال العراق.
•••
لاشك أن إغراء التعويل على القوة المسلحة وحدها أداة للسياسة الخارجية أو الداخلية فى حالات الصراع الدولى أو الداخلى هو إغراء لا يقاوم عندما يكون التفوق كاسحا لدى طرف. ولا يبدو أن الطرف الآخر يملك ما يمكنه من مقاومة هذا التفوق الكاسح. ومع ذلك فحتى فى هذه الحالات ليس من المؤكد أن يكون استخدام القوة المسلحة فعالا. فحتى فى حالة الطرف القوى، هناك قيود داخلية على استخدامه القوة المسلحة، منها الرأى العام الذى يخشى تضاعف الخسائر، وبالإضافة إلى ذلك ليس التطرف فى استخدام القوة أمرا محمودا، فسوف يتردد الطرف القوى كثيرا فى استخدام كل ما لديه من سلاح. كان من الخبل أن تستخدم الولايات المتحدة سلاحها النووى فى حربها ضد قوات جبهة التحرير الوطنى فى فيتنام ومعها حكومة فيتنام الشمالية. هناك طبعا القيد الأخلاقى الذى لا يمكن التهوين منه، ولكن هناك هدف الحرب ذاتها، ولم يكن يشمل القضاء على ملايين من الفيتناميين. ربما كان فى تصور القادة السياسيين الأمريكيين أن تتحول فيتنام المهزومة إلى حليف لها فى الصراع ضد حكومة الصين الشعبية أو ضد الاتحاد السوفيتى. ولاشك أن مصرع ملايين الفيتناميين فى هجوم نووى لم يكن سيؤمن لها هذه النتيجة. ومن ناحية أخرى فالطرف الأضعف نسبيا لا يعدم أدوات القوة هو بدوره. تملك الولايات المتحدة تفوقا فى أسلحتها التقليدية من مشاة محمولة جوا وطائرات مقاتلة ودبابات، ولكن الفيتناميين أبدعوا فى استخدامهم أسلوب الحرب الصغيرة ــ المسماة خطأ بحرب العصابات ــ وأذاقوا كلا من فرنسا وبعدها الولايات المتحدة طعم الهزيمة المر ببراعتهم فيها.. وللأسف فإن الحجم المقبول من ضحايا الحرب متفاوت بين الطرفين. عندما تصل خسائر الطرف القوى إلى بضعة آلاف، فلن يكون ذلك مقبولا من جانب رأيه العام، ولكن رأينا حالات يقبل فيها الطرف الأضعف التضحية بمئات الآلاف من مواطنيه. ألم توصف حرب تحرير الجزائر بأنها حرب المليون شهيد؟
طبعا ليس الهدف من هذه المناقشة النظرية والتاريخية استعراض تاريخ استخدام القوة فى العلاقات الدولية، ولكنه مجرد مفتتح لاستخلاص الدروس فيما يجرى من صراعات حادة فى وطننا العربى وداخل دوله. يستخدم التحالف العربى الذى تقوده المملكة العربية السعودية تفوقه فى السلاح الجوى فى مواجهة قوات الحوثيين وأنصار الرئيس اليمنى السابق على عبدالله صالح، وقد أعلن أطراف هذا الصراع هدنة تنتهى يوم السبت، وليس من المؤكد لحظة كتابة هذه السطور أن تفضى الهدنة الهشة إلى مفاوضات تنتهى بتسوية سياسية. ولم تكن السعودية وحدها التى عولت على الحسم العسكرى استنادا إلى تفوقها، ولكن الحوثيين أنفسهم ومعهم أنصارهم المحليون وإيران القوة الإقليمية التى تساندهم تصوروا أيضا أنه يمكنهم حكم اليمن وإقصاء حكومته الشرعية استنادا إلى تفوق سلاحهم. ولا يبدو أن أيا من طرفى النزاع قد تخلى عن رغبته فى حسم الصراع لصالحه. ولذلك فليس من المستبعد أن يتجدد القتال، والذى لم ينقطع تماما فى الحقيقة خلال فترة الهدنة، وأن يعرف هذا الصراع مرحلة أكثر تدميرا دون أن تبدو له نهاية قريبة.
•••
حالات الصراع الداخلى الأخرى فى الوطن العربى لا تختلف عن ذلك. ربما تكون هناك أطراف تملك تفوقا عسكريا فى مواجهة معارضة مسلحة أو غير مسلحة سواء فى العراق أو سوريا أو ليبيا أو حتى مصر، ولكن الطرف المتفوق عسكريا، حتى عندما يلجأ إلى حلفاء إقليميين مثل إيران وحزب الله فى سوريا، وقطر وتركيا فى ليبيا أو إقليميين ودوليين مثل إيران والولايات المتحدة فى العراق، فإنه لا يقدر على إنهاء الصراع لصالحه لأن الطرف الآخر لا يعدم الوسائل ليس فقط لتكلفته خسائر فادحة تهدد وجوده فى أقاليم واسعة من البلاد كما هو الحال فى سوريا وليبيا، ولكن لأن كل هذه الأطراف تعتبر أن معركتها مع خصمها هى معركة وجود، وليست نزاعا يستهدف تحسين شروط التعايش المشترك.
خطورة صراعات الوطن العربى الحالية هى تعريف أطرافها لها على أنها صراعات وجود، معارك صفرية لا يمكن أن تنتهى على نحو مرض لأى من أطرافها إلا باجتثاث الطرف الآخر وإنهاء وجوده ليس ككيان سياسى، ولكن حتى كبشر على قيد الحياة، كما تذكرنا بذلك من يوم لآخر المجازر التى تنظمها داعش لخصومها السياسيين ولمن يختلفون مع ما تعتقد أنه الدين الصحيح، ولذلك يطول أمد هذه الصراعات لأن الحل المقبول لأطرافها مستحيل، ولأن أيا من هؤلاء الأطراف عاجز عن إنهاء الصراع إعتمادا على قوته المسلحة، ومع ذلك فكلهم مستغرقون فى توهم أنه سيمكنهم الوصول إلى ذلك. ولذلك فالتطورات الأكثراحتمالا لمسارها هو استخدام كل طرف لكل ما يملك من قوة عسكرية، والتفنن فى زيادة قدرتها التدميرية بحيث يلحق أكبر خسارة بخصمه أيا كان أثر ذلك على الالتزام بقواعد النزاعات المسلحة أو النأى بالمدنيين عن نتائج هذه الصراعات أو الحفاظ على التراث الثقافى لهذه الشعوب. وإذا لم تفلح الإمكانيات الذاتية لهذه الأطراف فى تعزيز قدرتها على مواصلة القتال، فهناك دائما الأطراف المستفيدة من هذه الصراعات لتدعيم مكانتها الإقليمية أو الدولية أو حتى لاقتضاء ثمن مقابل تأييدها.
•••
الصراعات المسلحة التى عرفتها أقاليم أخرى فى قارات العالم بأسره انتهت بتسويات سياسية لم يقض فيها طرف على الطرف الذى كان خصمه اللدود فى حرب طالت أم قصرت، لأن أطرافها فى أمريكا الوسطى وفى أنجولا وجنوب أفريقيا ويوغوسلافيا السابقة، إما أدركوا عدم فاعلية القوة المسلحة أو لأن قوى دولية أجبرتهم على قبول التسوية. الأطراف الإقليمية داخل وطننا العربى وعلى تخومه مستريحة تماما لهذه الحروب العربية العربية، والأطراف الدولية لاترى فيها خطرا وشيكا على مصالحها. ولذلك سيطول أمد هذه الحروب طالما لم يتخل أطرافها عن وهم الحسم العسكرى وطالما أنهم لا يتقبلون ضرورة العيش المشترك مع خصومهم ولكن شركاءهم فى الوطن. لقد نصح ميكيافيللى أميره بأن يسعى إلى الهيبة وأن يزرع الخوف من سطوته فى نفوس أعدائه، ولذلك دعاه أن يتمثل بالأسد، ولكنه أسرع إلى تذكيره بأنه يجب أن يجمع المكر إلى جانب القوة فيتحلى بصفات الأسد والثعلب فى آن واحد.
دعونا نأمل أن يظهر فى أوطاننا قادة دول يجمعون بين امتلاك القوة العسكرية والبراعة فى استخدام فنون السياسة. وفنون السياسة تشمل ليس المكر وحده ولكن اكتساب الشرعية وتوسيع نطاق الرأى العام المساند وتضييق دائرة مؤيدى الخصوم. فمتى يظهر هؤلاء القادة؟