من «حصالة» الحكمة
جميل مطر
آخر تحديث:
الثلاثاء 18 يونيو 2019 - 10:25 م
بتوقيت القاهرة
كنت آتى إلى هذا المكان كلما دعتنى الحاجة إلى أن أخلو بنفسى بعيدا عن واجبات كانت هذه المدينة تفرضها بنعومة ومتع كانت تعرضها بسخاء. هناك مدن عرفت كيف تحتوينى ومنها هذه المدينة، ومدن لم تفهمنى تعلمت ألا أجهد نفسى فيها أو معها. مدن كثيرة تغيرت وكذلك الأماكن التى كنت أفضلها ومنها هذا المكان الذى أكتب منه هذه السطور. المكان هو نفسه بالمعنى الجغرافى ولكنه الآن شيء آخر بمعنى الزمن وشيء ثالث بالمعنى الإنسانى، أقصد بالمعنى العاطفى. هنا قبل عشرات السنين كنت أسجل تفاصيل أيامى التى أقضيها فى هذه المدينة. أختار مائدة فى موقع يرى ولا يرى. أطلب شرابى المفضل، وهو الذى كان يأتى عادة مصحوبا بأطباق، طبقان منها على الأقل ينحدران من أصول طائفية والبقية متنوعة المنشأ ومتباينة فى عناصر التطور والتذوق.
***
وصل الشراب واستقبلته متململا فاللون يشى بنقص فى خبرة من أعده والكأس من زجاج أملس رخيص المظهر والأطباق لا تأتى إلا بالطلب، كل طبق يطلب لذاته وعلى حدة. رفعت رأسى بنظرة احتجاج فقابلنى وجه شاب تعيس عديم الحيلة. كتمت النظرة وعدت إلى أوراقى أرتبها فى انتظار وصول الرفاق. التقينا أمس وبالمصادفة فى مؤتمر تنظمه مؤسسة دولية. كانت المصادفة مثيرة حقا. رجلان وامرأة استضافتهم قبل ثلاثين عاما هذه المدينة، سنوات استطاعوا خلالها إقامة علاقة جماعية قوية انفرطت بعد رحيلهم عنها. بقيت منها الرسائل تماما كما بقى فى المدينة بعض أبراج كنائسها ومآذن مساجدها ومكان مثل هذا المكان دليلا على ماض يخاف أن ينساه البشر. اتفقنا على عقد لقاء اليوم فى المكان الذى شهد أمتع جلساتنا نستكمل فيه بعض ما فاتنا فى زمن الانفراط. اشترطت الأنثى بيننا حرصا على وقتنا الضيق أن نركز على ما نعتقد أنه أضاف إلى أرصدة الحكمة التى جمعها كل منا على مر السنين.
***
«أراك حزينا هذا الصباح». هكذا افتتحت النقاش صديقتنا وأضافت. «أرى فى عينيك حزنا لم يكن فيهما ليلة الأمس. لعلك تذكر يا صديقى أنك كنت أول من لفت انتباهى إلى أن فى العينين تجتمع جميع أحاسيس الإنسان. العينان لا تكذبان. سرك معلن فى عينيك ورغباتك أيضا. استفدت كثيرا من ملاحظتك. استفدت منها فى علاقتى بزوجى. كنت أقرأ فى عينيه نوايا خلاف فأبتعد وأقرأ فيهما السلام والحب فاقترب. رأيت فيهما ذات يوم رغبة انفصال فدعوته إليه. استفدت منها فى تربية أطفالى. كنت دائما جاهزة لاستقبال ما يدبرون ويطلبون أو يرفضون. عينا الطفل تفضحان خداعه قبل لسانه وقبل دموعه. الرجال أيضا تفضحهم عيونهم. ألم نتعلم نحن النساء كيف نحكم على شخصية رجل من عينيه. كم رجل أسقطناه من حساباتنا لأن نظرته لم تصمد أمام نظراتنا. أتحدى أى امرأة تزعم أنها لم تتلق من عينىّ زميل فى العمل أو ضيف فى حفل تحذيرا لتتوقع تحرشه بها قبل أن يمد يدا أو يهمس بحرف. لن أطيل. فقط أردت أن تعرف أنك بدوت لنا حزينا على غير عادتك».
***
أجبت «صدق حدسك. أما الحزن فجاثم على صدرى منذ وطأت بقدمى مطار هذه المدينة. تعرفان أن هذه المدينة تمثل لى الكثير الكثير. لم تكن أبدا بالنسبة لنا مجرد مبانٍ وشوارع وأماكن تسلية وقاعات علم ومنابر ثقافة. كانت كل هذا وكانت أيضا بشرا ونظافة وموسيقى وأغانى ومهرجانات. كانت مدينة سعيدة تسكنها نفوس مرتاحة وقلوب مزدهرة بالتعاطف. بكل المقاييس، وأقصد مقاييسنا نحن الشباب، كانت مدينة ناجحة. أتذكران حين أطلقنا عليها مدينتنا الفاضلة. لا أخفيكما يا صديقىَّ، ما هى إلا خطوات على أرض مطارها ودقائق فى معية سائق التاكسى ونظرات على صور للزعماء وأقوال مأثورة، إلا وحط على القلب حزن لم يفده بالتأكيد قرارنا بأن نلتقى فى هذا المكان. كم صادقة كانت نصيحة كبيرنا ومعلمنا الذى طلب منا أن نحمل معنا دائما أحلى ذكريات ماضينا، لا نتخلى عنها فى حاضرنا ولا مستقبلنا، وحتما تذكران كيف شدد علينا ألا نحاول بعث ماضينا حيا. أذكر تحذيره حرفا حرفا، إن فعلتم قد تخسرونه فتعيشون بقية حياتكم ينقصكم الحنين إلى ماض جميل. أظن، يا عزيزتى، أنى تخيلت للحظة أننى أستطيع بعثه حيا، تجاهلت تحذيره فصدمتنى المدينة ودب الحزن الذى ترين مسحة منه».
***
استأذن ثالثنا. غاب دقائق وعاد. رشف من كأسه رشفة علق بعدها بقوله «صحيح ما تقولان. هذه المدينة تغيرت. هذا المكان، كنت أحضر إلى هنا لأستمتع بمنظر خلاب فى صحبة رائعة. بحثت عن المنظر لم أجده. سألت عاملا فتعلل بمؤسسة كبيرة المقام استولت عليه. أخفته عن الأبصار إلا أبصارها. تذكران طبعا الصحبة الرائعة فلكما أدوار لا ينساها إلا جاحد أو شخص غلبه الزمن. وأنا لست واحدا من الاثنين، على الأقل حتى الآن. هنا فى هذه المدينة تعرفت على الحب. منذ عرفته لم أطق العيش بعيدا عنه. بالغت فى التعبير عنه ليس فقط أمام من يهمه أمره ولكن أيضا أمام من لا يهتم ولا يعرف. كنت من فرط إعجابى بحالة الحب أتعرض لسخرية من أحب ومن لم يحب وكل حاسد وغيور. كنتما خير الأصدقاء وكانت الحبيبة خير ناصح ومحذر. قالتها مرارا، ألا أتكلم كثيرا فى وصف الحب ولا أتكلم إطلاقا فى لحظة الحب، حجتها كانت أن الحب كفيل بأن يعبر عن نفسه وأن الكلام فى غير مكانه مضيعة لوقت الحب وهو قصير وثمين. لم أقبل التحذير ودفعت الثمن غاليا. يئست منى ورحلت من المدينة. لم تترك أثرا، حتى المنظر الخلاب استولت عليه المؤسسة التى جاهرت بكره الحب. صدقتما، المدينة لم تعد لنا. ولكن الحب باق. لن أتخلى عن قولة حق. لن أتوقف عن قولة حب».
***
دفعنا الحساب. غادرنا المكان لا نحمل منه أو عنه أى ذكرى. لن نعود.