صداقة نجيب محفوظ ورجاء النقاش
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
السبت 18 يونيو 2022 - 7:10 م
بتوقيت القاهرة
ــ 1 ــ
كان نجيب محفوظ (1911ــ2006) صديقا مخلصا وفيا يقدّس قيمة الصداقة، من حيث هى قيمة أخلاقية كبرى، ويحفظ مقامها، ويصون عشرتها. فى حياة محفوظ ثمة صداقات تاريخية، بل نموذجية بالمعنى الحرفى والحقيقى لكلمة «نموذجية»؛ أسماء مثل محمد عفيفى، وصلاح جاهين، وأحمد مظهر (وبالجملة كل شلة الحرافيش القدامى) تتردد فى سيرة محفوظ وحياته فى أعز مكان وأكرمه.
الصداقة أحد أركان حياته؛ قيمة مقدسة وراسخة، فى يقينه وضميره، ظل طوال عمره حريصا عليها ووفيا لها.. «الصداقة» فى سيرة محفوظ؛ مثلها مثل الكتابة تماما، «قيمة إنسانية كبرى» لم يتنازل عنها أبدا، ولم يخل بواجباتها واستحقاقاتها أبدا.. وله فى ذلك حكايات وقصص رواها المقربون الحقيقيون منه، من شلة الحرافيش القديمة «عادل كامل، أحمد مظهر، محمد عفيفى، توفيق صالح».. وغيرهم.
ــ 2 ــ
من بين أبرز صداقات محفوظ التاريخية الراسخة، علاقته الوطيدة والثقة الإنسانية المتبادلة بينه وبين الناقد الجماهيرى الكبير رجاء النقاش (2008). والنقاش من القلة القليلة التى راهنت مبكرا جدا على عبقرية محفوظ الإبداعية، فى وقت انصرف فيه كبار النقاد عنه، بدعوى أنه «أصبح مؤسسة غير قابلة للنقاش»، أو أن «سرده الطويل يهبط بمستوى إيقاع رواياته»، أو أنه «يقف عقبة فى وجه الأجيال الجديدة من مبدعى الرواية»، فلما جاءت نوبل قلبت موازين الجميع، وهؤلاء النقاد بالأخص، وأكدت نبوءة رجاء النقاش الذى لم يفقد يقينه ولا إيمانه بعبقرية نجيب محفوظ.
بالتأكيد، كان النقاش مثقفا واسع الاطلاع، ناقدا موهوبا وبارعا فى اصطياد النصوص الجميلة، والكتابة عنها، بحس فنان عاشق ولغة صحفى محترف.. ما إن تنتهى من قراءة مقال له أو فصل فى كتاب عن نص شعرى أو رواية أو مجموعة قصصية إلا وتشعر برغبة جارفة لقراءة هذه النصوص ومطالعتها..
أقول هذا وأنا أعاود قراءة بعض ما كتبه فى قراءة وتحليل أعمال نجيب محفوظ فى كتابه «فى حب نجيب محفوظ» (صدرت طبعته الأولى عن دار الشروق فى 2003)؛ هذا الكتاب الذى لم يحظ بما يستحقه من شهرة وحضور، ضمن عشرات بل مئات الكتب التى ألِفت عن محفوظ بقيمة حقيقية أو بغيرها! وهو كتابٌ ممتع يجذبك بمنتهى اليسر والبساطة لإكمال مادته، ومطالعة فصوله ومقاربه تحليلاته، وإضاءاته النافذة لنصوص محفوظ.. وسأعود إلى هذا الكتاب فى مقالات تالية لإلقاء مزيد من الأضواء على قراءات النقاش لأعمال محفوظ وطرحه لتفسيرات نقدية غاية فى الذكاء والعمق لأعمال شهيرة لمحفوظ مثل «الطريق»، و«أولاد حارتنا»، و«الحرافيش»..
ــ 3 ــ
هذا على المستوى النقدى؛ أما على المستوى الشخصى، وعلاقة الصداقة التى جمعت بين محفوظ والنقاش فيكفى مثالا للتدليل على متانتها وقوتها ورسوخها الإشارة إلى موقفين؛ الأول هو ثقة محفوظ المتناهية فى شخص النقاش للدرجة التى جعلته يسمح له بالتسجيل معه 54 ساعة كاملة، استغرقت منه سنوات حتى يفرغها ويكتبها ليخرج على الناس بكتابه الشهير «نجيب محفوظ.. صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» الذى صدرت طبعته الأولى عام 1996، عن مركز الأهرام للترجمة والنشر، ثم صدرت طبعته المنقحة والمزيدة عن دار الشروق بعنوان «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ» عام 2011، وهى الطبعة الأهم والأوفى والأكمل من مذكرات محفوظ.
لم يأتمن محفوظ أحدا على تفاصيل غاية فى الدقة والخصوصية، ولم يفصح عنها محفوظ أبدا من قبل، فى سيرته الذاتية وحياته الشخصية، مثلما ائتمن رجاء النقاش؛ وهذا ما يقول عنه محفوظ بالحرف الواحد:
«فيما يتعلق بسيرتى الذاتية، فقد أمليتها على الغيطانى، وصدرت فى «نجيب محفوظ يتذكر». أما الجانب الفكرى والعقلى، فأعطيته إلى رجاء النقاش. وهناك فتافيت ومناطق، لا أسئلة جمال تناولتها، ولا أسئلة رجاء حامت حولها. قلت أكتبها أنا. إذن فأصداء السيرة الذاتية مكملة للعملين، بمعنى أن من يريد أن يعرف عنى، عليه قراءة هذه الأعمال الثلاثة: نجيب محفوظ يتذكر، وكتاب رجاء، والأصداء»..
(من حديث صحفى مع نجيب محفوظ نشر فى مجلة «نصف الدنيا»، بتاريخ 14 يوليو 1996).
وهذا الكتاب تحديدا من أجمل وأهم ما قرأت عن نجيب محفوظ؛ حياته وأعماله وسيرته الذاتية وعلاقاته الإنسانية ومساراته الفكرية والإبداعية، وفيه تفاصيل غاية فى الثراء والأهمية والقيمة عن محفوظ عموما، وأدبه ونصوصه الروائية والقصصية بالأخص.
ــ 4 ــ
أما الواقعة الثانية، فكانت فى منتصف العام 1979 وكانت الأجواء السياسية فى مصر والعالم العربى ملبدة تماما بالغيوم والعواصف، وكان رجاء النقاش يعمل آنذاك مديرا لتحرير إحدى الصحف العربية بعد أن اضطرته تلك الظروف السياسية والمناخ العام فى أواخر عصر السادات إلى السفر خارج مصر ليؤسس واحدة من تجاربه الصحفية التى تدرس، كتب نجيب محفوظ رسالة عظيمة وجهها إلى رجاء النقاش (بتاريخ الأول من مايو عام 1979)؛ تبرز إلى أى حد كان نجيب محفوظ يحترم قيمة الصداقة، ويصون حقها، ويمارس استحقاقاتها الإنسانية، مهما كانت الظروف والموانع؛ كتب يقول:
«عزيزى رجاء.. تحياتى الصادقة مع أشواقى ودعائى وبعد،
فطبيعى أنه لا يغيب عن بالك وتقديرك ما جَدّ على العرب من موقف عسير حرج سيضاعف من خطورة عملك فى الجريدة (.......)، والحق أنى قلق عليك جدا، وأخشى أن تتورط جريدتك فى خصومةٍ نحو مصر، فتتحمل أنت وزرها أو بعضه، ولست أشك فى وطنيتك وفطنتك، ولا فى إحاطتك بأطراف من الموضوع قد تغيب عن مثلى، ولكن عليك لى حق أن تطمئننى عليك، وأن تقوى أملى الدائم فى رجوعك ذات يوم مظفرا محمودا بلا حرج ولا متاعب. اكتب لى يا عزيزى بخواطرك، وطمنى على حالك، وتقبل من ناحيتى حبى وحب الإخوان الحرافيش. ودمت للمخلص المحب نجيب محفوظ..».
(وللحديث بقية)