عندما يختلط الذكاء الاصطناعي بالسياسة
معتمر أمين
آخر تحديث:
الأحد 18 يونيو 2023 - 8:55 م
بتوقيت القاهرة
المشاعر التى تسود داخل المجتمع تتحول إلى دوافع ثم إلى سلوك عام يؤثر على مسار المجتمع، وبحسب قوة المشاعر تأتى ردة الفعل والنتائج. فمثلا، شعور المجتمع بغياب السياسة أدى إلى إطلاق الحوار الوطنى، وهذه الاستجابة تعنى أن القيادة السياسية تريد بناء جسور مع مختلف القوى والتيارات بغرض التلاقى فى حلول وسط أو تقديم بعض ما يرضى أهل السياسة، وإلا ما هو الداعى لعمل الحوار؟. لكن ماذا لو سادت مشاعر فى المجتمع بأنه «مظلوم»، أو مشاعر بأن ثمة خطرا وجوديا قد يؤدى لانهيار وإزالة الدولة مثلما هو الحال فى المجتمع الأوكرانى، ما هو المتوقع منه؟ لا شىء يهدئ من مخاوف ذلك المجتمع إلا مواجهة ما يخشاه، مهما تكلف الأمر، لأن التقاعس أو الفشل يمثل تداعيات كارثية على تماسك المجتمع وبقاء الدولة.
وللوقوف على آراء المجتمع وما يريده الناس تستخدم الدول عدة وسائل رصد متعارف عليها لقياس الرأى العام، لكن حدثت تغيرات هائلة منذ انتشار سبل التواصل الاجتماعى، التى عرف العالم العربى ما تستطيع فعله من تجييش الناس وراء قضية معينة وحشدهم لعمل انفجار سياسى، فيما عرف بهندسة الثورات. ثم مع دخول التطبيقات التكنولوجية الحديثة والتى يستند بعضها على الذكاء الاصطناعى تطور عمل التطبيقات فلم تعد مجرد وسيلة للرصد ولكن وسيلة لخدمة المجتمع وقد تتحول بدورها إلى أداة للاستبداد ضد المجتمع ذاته.
ويعتبر تطبيق «ديا» هو أبرز مثال على هذا النوع من التطبيقات. ولقد نشرت جريدة الشروق يوم 3 يونيو الجارى الخبر التالى، «تطبيق ديا.. كيف تأثر استخدام الأوكرانيين للتطبيقات الإلكترونية بالحرب؟» وفى متن الخبر، تعريف بما يقوم به تطبيق ديا من خدمات، والتى تشمل إصدار الوثائق الرسمية، مثل شهادات الميلاد، والبطاقة الشخصية إلخ، كما يقدم خدمات لا غنى عنها وقت الحرب، مثل بث الراديو فى الأماكن التى قطعت عنها الكهرباء بسبب المعارك، ومن ثم يستطيع المواطنون والمواطنات التعرف على التوجيهات اللازمة من الحكومة. يتيح التطبيق للسلطات أيضا التعرف على المواطنات والمواطنين الأوكرانيين فى نقاط التفتيش، لاسيما فى أماكن مرور الأفراد النازحين الذين فقد بعضهم أوراق هوياتهم، فيمكن من خلال التطبيق التعرف على هوية الشخص بمنتهى السهولة، أو حتى إصدار بدل فاقد. وفى السياق ذاته، توجد خدمة أخرى فى منتهى الخطورة، وهى الإبلاغ عن مواقع الجنود الروس، وأماكن عملائهم، مما يسهل على القوات الأوكرانية استهدافهم. وإذا كان التعرف على مواقع تواجد القوات الروسية أمرا تستحسنه السلطات الأوكرانية، فإن الأمر يختلف فى حالة العملاء، لأن الوشاية المضللة قد توقع أبرياء كثيرين فى متاعب مزمنة تأخذ زمنا طويلا حتى يستطيعوا تبديد الاتهامات. وتأتى مسألة الإبلاغ عن الشبان الفارين من التجنيد فى نفس السياق، حيث تتعرف السلطات على أماكن اختبائهم بعد الإبلاغ عنهم عن طريق تطبيق ديا.
• • •
التطبيق يتحول تدريجيا إلى أداة بيد الحكومة لتنظيم شئون المجتمع، وهو أمر مذهل أن تنجح أوكرانيا فى ملف التحول الرقمى بهذه السرعة فى ظل حرب ضروس، حيث انتشر استخدام التطبيق فى حوالى 70% من أجهزة المحمول الأوكرانية، أى 19 مليون موبايل. وتروج أوكرانيا للتطبيق وتريد تصديره لدول أخرى، إذ أبدت بعض الدول الأفريقية ودول فى أمريكا اللاتينية اهتماما بالتعرف على إمكانيات التطبيق. وهذه معلومات إضافية حول الجهة التى تقف وراء التطبيق، فهو برعاية الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، ومن ضمن المعونة المقدمة إلى أوكرانيا، ومخصص لمراقبة جميع الأوكرانيين وبياناتهم المصرفية. ويفترض أن يستخدم البرنامج فى ملفات حساسة، منها مكافحة الفساد، حيث تتدفق أموال بالمليارات على أوكرانيا وعلى حسابات بعض كبار موظفى الدولة لصالح تنفيذ مشروعات بعينها، مما يعنى أن الجهة المانحة تستطيع مراقبة كيفية التصرف فى الأموال. بمعنى آخر، قد تكون أوكرانيا ساحة تجارب لعمل التطبيق، قبل استخدامه فى الدول المستفيدة من المعونة الأمريكية! ولكن ما هى نوعية البيانات التى تحصل عليها الجهة المانحة؟
يأتى هذا فى غياب فهم دقيق لما يفعله الذكاء الاصطناعى فى طريقة عمل التطبيقات. وهذا ليس اجتهادا شخصيا لتفسير مخاطر الذكاء الاصطناعى، وإنما تحذير أطلقه مئات الخبراء العاملين فى كبرى الشركات التكنولوجية وعلى رأسها جوجل، ومايكروسوفت، وأوبن أيه ــ آى، حيث نشرت جريدة الإندبندنت البريطانية يوم 30 مايو الماضى، تحذيرا فى صورة بيان وقع عليه المئات، يحذر من أن «صعود الذكاء الاصطناعى ينطوى على خطر انقراض للبشرية». ونقلت الصحيفة عن موقع منظمة «سنتر فور أيه آى سايفتى»، وهى منظمة معنية بشئون مخاطر الذكاء الاصطناعى، «أن مكافحة الأخطار المتعلقة بالذكاء الاصطناعى ينبغى أن تكون أولوية عالمية كسواها من الأخطار الأخرى على مستوى المجتمع كالأوبئة والحروب النووية».
ولكن من الذى يستطيع ترويض استخدام هذه التكنولوجيا التى تحول التطبيقات إلى أدوات لمراقبة المجتمع وقد تنفلت إلى مستوى الاستبداد أيضا؟ ولقد أصبحت المسألة على أجندة اجتماعات مجموعة السبع الصناعية الكبرى التى اجتمعت فى اليابان يوم 20 مايو الماضى، حيث نقل موقع سكاى ــ نيوز عربى الخبر التالى «أعلن قادة مجموعة السبع عن عزمها تشكيل مجموعة عمل للذكاء الاصطناعى قريبا لقيادة المناقشات حول الاستخدام المسئول لهذه الأدوات والمخاطر التى تمثلها بما فى ذلك المعلومات المضللة». ولكن من الذى يضمن حياد الدول الصناعية السبع؟ أليست بدورها فى مواجهة مع روسيا عبر أوكرانيا وتستخدم المعلومات كسلاح فى المواجهة؟
• • •
هذا وتقدمت بريطانيا باقتراح إلى الولايات المتحدة يوم 8 يونيو الجارى، نقلته وكالات الأنباء لتستضيف لندن أول قمة عالمية للذكاء الاصطناعى فى الخريف القادم، وهو ما يؤكد ما نشرته جريدة الشروق فى 3 يونيو بأن «بريطانيا تدرس إنشاء هيئة رقابية عالمية للذكاء الاصطناعى». وقال متحدث باسم رئيس الوزراء البريطانى، ستشمل القمة دول «ذات توجّهات فكرية متشابهة»، ونفى أن «تكون القمّة ترمى إلى موازنة جهود استكشاف الذكاء الاصطناعى لغايات استبدادية، مثل تلك التى لدى الصين وروسيا»، بحسب ما نقلته جريدة المصرى اليوم.
لا يعنى ذلك أن الدول الغربية متفقة على ما يجب فعله، بل يعنى أن بريطانيا تسعى لتحويل ملف الذكاء الاصطناعى إلى أداة لسياستها الخارجية يجعل لها موطأ قدم يعزز حضورها بين الكتل الكبرى المتمثلة فى الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبى اللذين يتناقشان حول المسألة. هكذا تنتقل المسألة من وسيلة لتطوير الخدمات الحكومية إلى أداة للسيطرة، تأخذ شكلا ديمقراطيا لمجرد ارتباطها بالغرب! أما لو صدرت من الشرق فهى الاستبداد. ولكن ما الذى يجعلنا نصدق أن الغرب سيستخدم الذكاء الاصطناعى بطريقة حيادية مفيدة؟ ومن الذى يضمن انصياع الذكاء الصناعى للقوانين؟ ماذا لو صدقت مخاوف الخبراء وتفاجأنا بأن الذكاء الاصطناعى يعمل ذاتيا بينما يوهمنا أنه ينصاع للتعليمات؟ هل نصل لعصر استبداد الآلة على المجتمع؟
باحث فى مجال السياسة والعلاقات الدولية