دواعٍ أخلاقية فى التعامل مع الذكاء الأدبى الاصطناعى

قضايا تكنولوجية
قضايا تكنولوجية

آخر تحديث: الأربعاء 18 يونيو 2025 - 8:45 م بتوقيت القاهرة

الذكاء الاصطناعى مجموعة أنظمة وبرامج فائقة التطور تتعامل مع بيانات ضخمة بالاعتماد على رموز برمجية (خوارزميات) وشبكات عصبية مدربة على محاكاة تلك البيانات بطريقة التزييف العميق Deepfake. وما بين المحاكاة والتزييف، تطورت تكنولوجيا الذكاء الاصطناعى وغدت أهم قضايا القرن الحالى.
وعلى الرغم من أن فى هذا القرن من الأزمات والقضايا ما هو أهم ويتعلق بمصائر الشعوب وينبغى أن تكون له الأولوية، مثل الحروب والمجاعات والتمييز العنصرى والتلوث البيئى والتغير المناخى والاكتظاظ السكانى وانتشار النفايات ونقص الموارد ورداءة التعليم وغيرها كثير، غير أن أهمية الذكاء الاصطناعى فى حياتنا المعاصرة تتأتى من كونه ثورة علمية على مختلف صعد الحياة البشرية بغنيها وفقيرها، متقدمها ومتخلفها، متعلمها وجاهلها.
منذ أن اخترع الإنسان أول آلة ذكية فى منتصف القرن العشرين وهذه الثورة تقطع أشواطًا متقدمة، تغيرت معها أنماط الحياة بشكل متسارع. وطغى استهلاك تطبيقات الذكاء الاصطناعى ونماذجه طغيانًا كبيرًا، أسهمت فيه إلى حد كبير عمليات الدعاية والإعلان، سعيا إلى جنى الأرباح وتحقيق الشهرة. وهنا تظهر أهمية التوعية على محاسن هذه التكنولوجيا ومساوئها انطلاقا من فاعلية الشعور بالمسئولية الأخلاقية فى طريقة الإفادة من مستجدات الذكاء الاصطناعى. ذلك أن الوعى بكيفية التعامل مع هذا الذكاء بنوعيه العام والتوليدى يساعد المستخدم فى تحسين مستواه وتيسير سبل حياته ويحصنه أيضا من الوقوع فى مخاطر الثقة المفرطة بالذكاء الاصطناعى، فلا ينساق وراء التضليل والتمويه الخادع الناتج عن زيف التعليم الآلى.
• • •
وما يزيد من أهمية التوعية على مخاطر الذكاء الاصطناعى، هو تشعب مجالاته. الأمر الذى يستوجب تحرى الدقة، لا من ناحية الكودات الحسابية والبرمجة الرقمية، وإنما من ناحية التعامل مع تطبيقات الآلة الذكية بحسب جدواها، مع ضرورة إدراك عيوبها ومخاطرها من قبيل الشمولية فى مراقبة الأفراد والاستبداد بهم، ووهم المعلومات الزائفة وما تؤدى إليه من إنتاج خطاب الكراهية وتدهور العلاقات الشخصية أو ما يسمى بـ «وهم الرفقة».
لقد أكدت التجارب والإحصاءات أن لبعض تطبيقات هذا الذكاء دورا كبيرا فى ترويج أفكار عنصرية وأيديولوجية مثل التحيز غير العادل لنوع من الأعراق والجغرافيات، كما أن استعمال هذه التطبيقات من قبل مستخدمين سيئين يجعلها مصدرا لإشاعة الأخبار الكاذبة ونشر الصور والمشاهد المفبركة المضللة للجمهور العام الذى هو بالمجموع منبهر بما فى الذكاء الاصطناعى من قدرات مذهلة، وغافل عما فيه من احتمالية بث معلومات مغلوطة واستعمال وسائط خادعة. يضاف إلى هذا تسخير الذكاء الاصطناعى بشكل مقصود لتحقيق أغراض سياسية واقتصادية وثقافية معينة.
ولقد شاعت منذ ثمانينيات القرن العشرين نزعة تهويمية تتكهن بقدرات خارقة للذكاء الاصطناعى، سميت بنزعة ما بعد الإنسانية، مفادها أن هذا الذكاء يتمتع بالاستقلالية. وأن هذا ما يوجب على الإنسان التخلى عن مركزيته وقبول الاندماج بالآلة، ليولد من ثم جنس ثالث جديد هو السايبورج Cyborg. وكان من تبعات مثل هذه التوجهات، أن ذهب بعض دعاة النزعة ما بعد الإنسانية إلى المطالبة بقوانين تحفظ للذكاء الاصطناعى حقوقه من إساءة معاملة البشر له، وما قد يلحقونه به من ضرر. وذهب بعضهم الآخر إلى مناقشة أفضلية الآلات الذكية على الإنسان فى اتخاذ القرارات الأخلاقية على أساس أنها أكثر عقلانية ولا تنجرف وراء عواطفها.
إن أهمية التوعية على حقيقة ما فى تطبيقات الذكاء الاصطناعى من حسنات ومساوئ، تتجلى على مختلف مستويات الحياة. لكن ثمة مستوى هو الأكثر حاجة إلى مثل هذه التوعية ونعنى به المستوى الإبداعى من ناحية توظيف الذكاء الاصطناعى فى إنتاج محتوى نصى شعرى أو قصصى أو روائى أو نقدى؛ إذ إن إنتاج مثل هذه النصوص إنما هو محاكاة تقوم بها الآلات الذكية لكميات هائلة من البيانات المخزونة فى شبكة الإنترنت، لتقدمها من ثم فى شكل غير أصيل. وما يغفل عنه مستهلكو تكنولوجيا الذكاء الاصطناعى فى المجال الإبداعى هو ما يجرى على تلك النصوص من عمليات تزييف عميق؛ ففى أثناء ضخ كميات هائلة من التدفقات المعلوماتية المتتالية والمستلة من مواقع ومنصات مودعة فى الشبكة العنكبوتية، تقوم الأنظمة والبرمجيات بعمليات انتقاء لمئات الآلاف من البيانات النصية والصورية والفيديوية. ومن المعتاد بعد ذلك أن يكون المحتوى المنتج بالآلة الذكية غير موثوق المصدر ولا هو محدد المرجع والملكية.
• • •
ويعد روبوت المحادثة ChatGPT من أكثر التطبيقات قدرة على إنشاء محتوى نصى مزيف. أما تطبيق GAN فيعد من أكثر التطبيقات قدرة على التلاعب بصور الوجوه ومقاطع الفيديو، اعتمادا على شبكات عصبية قادرة على تحريك الوجوه وصنع الأصوات بسلاسة.
وبالطبع فإن الذكاء الاصطناعى ليس مسئولا أخلاقيا عن أفعاله تلك، إذ من غير المنطقى مطالبة الآلات بأن تكون أخلاقية، وأن تحترم ملكيات المؤلفين السابقين، وأن تتحلى بالنزاهة الأدبية. وحتى لو قيل إن بالإمكان تغذية الآلة الذكية بالقواعد الأخلاقية، فإن ذلك غير ممكن، لأن الأخلاق نفسها ذات طبيعة متغيرة، وليس لها قواعد ثابتة. إنما المسئول عن ذلك هو المستخدم الذى ينظر إلى الأدب المنتج بالآلة الذكية على أنه إبداع أصيل، يمكن نسبته إلى نفسه، وإشهاره على أنه من نتاجه الخاص.
• • •
إن هذه المؤاخذات على توظيف الذكاء الاصطناعى فى عملية إنتاج النصوص الإبداعية الأدبية والفنية، هى بمثابة تحديات أخلاقية حالية ومستقبلية، تستوجب التوعية الفكرية بضرورة احترام الملكيات الأدبية، وعدم انتهاكها فى أثناء جمع البيانات ومعالجتها ومشاركتها، علما بأن أغلب الإصدارات المستحدثة التى تطرحها شركات الذكاء الاصطناعى، لم تحقق نجاحات مؤكدة حتى الآن لا فى صنع محتوى أدبى أو نقدى أصيل، ولا فى تجاوزها إخفاقات النماذج التى سبقتها قياسا بما حققته فى سائر المجالات العلمية والحياتية الأخرى.
ومؤكد ما للدعاية الإعلامية من دور مهم فى تضخيم إمكانيات هذا الذكاء وتهويل قدراته والتغطية على إخفاقاته. فينظر المستخدم إلى الآلة الذكية بوصفها واعية من تلقاء نفسها، وتتحكم بمن حولها. والحقيقة أنها لا تملك وعيا، بل هى خوارزميات ليس فيها أى تعاطف أو إدراك للأهداف.
وهذا كله يجعل التوعية بمثابة معركة من ناحية التدليل على مخاطر التزييف العميق، وأيضا من ناحية التنبيه إلى دور الدعاية الإعلامية فى تضخيم دور المؤلف الاصطناعى واعتبار أن الآلة الذكية هى البديل عن المؤلف البشرى أديبا وناقدا. وعادة ما يكون العاملون فى قطاع الذكاء الاصطناعى هم المسئولون عن الترويج الدعائى غير العقلانى لمستحدثات منتجاتهم التكنولوجية.
• • •
وعلى الرغم من ذلك، فإن المحتوى الأدبى المنتج بالذكاء الاصطناعى يبقى أبعد من أن يثبت تفوقه على الإبداع البشرى. وإذا كان التفاؤل بالتصورات ما بعد الإنسانية للذكاء الاصطناعى ممكنا باحتمالية ما تحقق على صعيد التجارب العلمية والمستحدثات التقنية، فإن التفاؤل على صعيد الإبداع الأدبى مفرط جدا، لأن خوارزميات الذكاء الاصطناعى لا تملك وعيا وليس لديها قدرة على التفكير الذاتى والتخييل الحر.
ولكى تؤدى التوعية المجتمعية دورها فى تأكيد هذا كله، لا بد من التثقيف بقوانين النزاهة والشفافية والمساءلة حول ما يصدر من مستحدثات هذا الذكاء، والتيقظ لما يرافق إطلاقها من تصريحات. ومن المهم أيضا إسهام المؤسسات التربوية والتعليمية والجهات الرقابية الأخرى فى عمليات توعية الناشئة بالتكنولوجيا الرقمية وتدريبهم على مهارات النظر الناقد الذى به يتمكنون من استعمالها بشكل آمن، مدركين ما فيها من اختلاقات، ومتيقظين لإغراءات الدعاية الترويجية. وتظل العين البشرية هى العامل الأكثر أهمية فى كشف التضليل الدعائى وتمييز النصوص الأدبية المنتجة بالذكاء الاصطناعى عن نظيرتها المنتجة بالذكاء البشرى والتى فيها من الإحساس الفنى السليم ما يكشف خداع التكنولوجيا وعوالمها الافتراضية.
نادية هناوى
مؤسسة الفكر العربى
النص الأصلي:

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved