عن التربية والعدالة والنور
أهداف سويف
آخر تحديث:
الأربعاء 18 يوليه 2012 - 9:05 ص
بتوقيت القاهرة
أمس، الثلاثاء ١٧ يوليو، بدأ والدى، أمد الله فى عمره وأدام عليه الصحة والعافية، عامه التاسع والثمانين.
الأستاذ الدكتور مصطفى سويف: ربّى أجيالا، وأنشأ مؤسسات، وعالج مرضى، وأدار أبحاثا، ودرَّب أطباء وألف كتبا، وكتب مقالات وشرَّف اسمه قوائم جوائز وتكريمات. يقول «جاءنى ابننا، فلان، أمس ابننا ده طبعا أستاذ غير متفرغ دلوقتى». وفى أقاصى بلاد الأرض وجدت من يقدم لى خدمة أو يسهل لى طريقا لمجرد أننى ابنته. فى كندا، فى إبريل، وقف رجل من الجمهور فى نهاية المحاضرة العامة التى كنت أقدمها، وبدلا من أن يلقى على الأسئلة أو الملاحظات أخذ يقص قصصا عنه: عن محاضراته فى الجامعة، عن أسلوب تعامله، عن إصراره على احترام الفصل والعلم والمواعيد. وفى غزة فى مايو، فى احتفالية فلسطين للأدب، ظل شاعر تونسى كبير برفقتنا يحَمِّلنى له السلام ويعجب لِحَظِّه السعيد أن يلتقى بابنته: يعنى ابنته هكذا مباشرة؟ يعنى هو أبوكى؟
نعم هو أبويا. ربّى أجيالا، وأنشأ مؤسسات، وعالج مرضى، وأدار أبحاثا، وألف كتبا، وكتب مقالات وأنجبنا: أنا، وليلى، وعلاء. أحاول أن أحدد أول مشهد له فى ذاكرتى فأجدنى لا أراه فيه لكنى أسمعه:
مشهد: أوضة السفرة فى بيت جدى موسى؛ جدى لأمى، فى شارع الجيش، فى أوله حين يتفرع من ميدان العتبة الخضراء. الأسرة مجتمعة حول المائدة لكن أمى مش موجودة لأنها «سبقتنا» إلى إنجلترا فى بعثة الدكتوراة. لا بد أنى فى الرابعة. لا أدرى لماذا أرانى فى هذا المشهد بالملابس الداخلية البيضاء، لكن الأكيد أننى أتقافز على الكراسى وأعمل دوشة كبيرة وتقريبا أتسلق السفرة نفسها، وأسمع صوت أبى يقول: «الطفلة إكسايتد» فكانت فى الأغلب أول كلمة إنجليزية أسمعها. أظل أعيدها وأنا أتقافز: إكسايتد، إكسايتد، إكسايتد لأن الموافقة على سفره جاءت أخيرا وسنذهب أنا وهو لنلحق بأمى بعد فراق دام شهورا. علمت فيما بعد أن الموافقة على سفره تأخرت لأنه كان موضع شبهة عند السلطات، فقد قضى عاما فى السجن وهو فى التاسعة عشرة لانتمائه إلى جمعية سرية يسارية. وسألتُ أمى ألم يكن هذا فى عهد الملك الظالم؟ لماذا إذن يتحفظون عليه فى عهد الثورة؟ فأجابت لأن من يستطيع أن يقول «لأ» للملك يستطيع أن يقولها للجيش.
لا يسهب فى الحكى، لكنه حين نطلب يحكى كيف جاء «القلم السياسى» إلى بيتهم فى عابدين، وتحدثوا بكل أدب مع جدتى، والدته، وأمهلوه ليُعِدّ حقيبة. وكيف أنه فى السجن استقبله الضابط رئيس السجن فأجلسه قبالة مكتبه، وطلب له القهوة، وأخذ يناقشه فى النظريات السياسية قبل أن يُوْدعة الزنزانة التى قضى فيها سنة انشغل أثناءها بترجمة أرسطو!
سافرنا. ذهبنا إلى الإسكندرية، والتقينا المستشار أحمد عبدالعال، خال أمى، فجاء معنا، وصعد معنا إلى الباخرة «ستراثيدن» وظل معنا حتى آخر لحظة قبل الإبحار ليؤَمِّن أبى فلا تسحبه السلطات فى آخر لحظة.
أسبوعين فى مركب، يعتنى بطفلة فى الرابعة! لكنه نجح. ذهبنا، وعدنا، وفى المركب العائد أذكره يحاول إعادة تعليمى العربية التى فقدتها فى لندن. ما زلت ألجأ إليه للعربية وللأسئلة الكبيرة فى حياتى.
كتب الكثير، وكُتِب عنه الكثير، لكنى أحاول أن أضع هنا فى هذه التحية المختصرة شيئا من الرجل الخاص، الأب الذى كان معنا، فتحضرنى لحظات وومضات ومقولات متفرقة.
يحكون فى الأسرة كيف كنا، نحن الأطفال فى البيت، نقف خارج باب أوضة مكتبه المغلق ولا نجرؤ على الدخول. وأستعيد فعلا ذلك الباب المغلق، والإحساس بأن ما يجرى خلفه عظيم الأهمية ويستوجب هدوءنا خارجه. لكن يأتينى أيضا صخب أيام مشمسة فى حديقة واسعة ذات أشجار (ربما القناطر الخيرية؟) وهو يركض فى دائرة حول شجرة ونحن الأطفال نركض وراءه ولا نلحق به أبدا، وهو يجرى بمهنية أنيقة وبسرعة جدا فقد كان عدّاء مدرسته ويلتفت وراءه يضحك لنا، يغيظنا ويحفزنا فى آن، إلى أن نتساقط جميعا على النجيلة لاهثين، نرتاح ثم نطالبه بالإعادة. وفى البيت نطالبه بأن يرينا «العُقلة» وهى أن يقفز فيقبض بيديه على أعلى برواز الباب ثم يتدلى منه رافعا جسمه ومُهبطه بحساب وتأن كما فى لعب العقلة فى الجمباز. أو أرى سيارة بيضاء، وثلاثتنا فى الكرسى الخلفى نصرخ بالأغانى والأناشيد طول الطريق إلى الإسكندرية والآن أتعجب كيف كانا، هو وأمى، يتحملان ذلك الزعيق المتواصل ورا دماغهم فى السيارة الصغيرة؟
وأما عن ذلك الباب المغلق: حين عدنا من إنجلترا استأجر أهلى شقة فى الزمالك تبعد مائة متر عن المدرسة التى انتقوها لى، فكنت أمشى إلى المدرسة وأعود منها وحدى. كنت فى السابعة، ولم أستعد لغتى العربية تماما بعد، وكنا فى مرحلة تجريب «دادات» مختلفات لى ولإخوتى، وحدث أن كسر شخص ما اللوح الزجاجى الكبير فى باب الأسانسير، فأخذتنى الدادة على جنب وقالت أنها تعرف أننى أنا التى كسرت الباب لكنها لن تقول لأحد. قلت لها أنى لم أكسره. وفى الصباح، وأنا أنزل إلى المدرسة استوقفنى البواب وقال لى إنه يعرف أننى أنا التى كسرت الباب لكنه لن يقول لوالدى. وبدأت حقبة مظلمة؛ البواب فى كل مرة أخرج أو أعود، الدادة فى البيت، النظرات والهمس: متخافيش، مش هنقول لبابا، احنا عارفين ان انت، بس مش هنقول، مش هنقول، ما تخافيش، بس احنا عارفين.. لا أعرف كم يوما مرت لكنى أعرف جيدا ذلك الشعور بالظلم والظلمة والخطر يضيق الخناق حولى: احنا عارفين، احنا عارفين بس مش هنقول.. قلبى مقبوض، أحاول أن أتحاشاهم، فى المدرسة أنشغل بكيف سأعود إلى البيت دون أن يرانى البواب، معدتى تؤلمنى.. كم يوما؟ اثنان، ثلاثة، لا أدرى. لكنى أرانى عائدة من المدرسة، تفتح لى الدادة الباب وأقابل النظرة ذات المغزى التى أعرف أنها تنتظرنى فى عينيها، أنحرف يسارا وأنقر على باب غرفة المكتب فتتحول النظرة الموَرِّطة المهدِّدة إلى الدهشة، أفتح الباب بدون انتظار الإذن وأدخل وأغلقه ورائى. أقف إلى جانب مكتبه وأقص عليه القصة. سأل مرة واحدة عن الزجاج المكسور فقلت لم أكسره. خرجت الدادة من حياتنا فى هدوء، وزال السحر الشرير من البواب فعاد كما عرفناه، عاد التوازن والنور إلى الحياة، وآمنت أنا بضرورة المواجهة، وبحتمية الوصول إلى العدالة إن آمننا بوجودها وبحقنا فيها وإن طالبنا بها بوضوح وشجاعة. (لم يصدُق هذا حين ذهبت مع شباب لا للمحاكمات العسكرية للمدنيين للقاء اللواء الروينى فى يونيو ٢٠١١، لكن هذه قصة أخرى).
ذهبت لوالدى حين قامت الثورة فوجدتها قد أسقطت عنه عشر سنوات. قال إنها ثورة شعبية، ثم قال إنها ثورة مجتمعية، ثم قال إنها ثورة إنسانية. يتابِع، وينتقد، ويشجع، ويؤْمن ويغذى إيماننا. يقول إننا إن شعرنا أننا محبوسون فى صندوق، فلنتذكر أن الصندوق له ستة جدران، كل واحد منها يمثل إمكانية، إن هدمناه نخرج إلى طريق؛ علينا إذا أن نختار طريقنا، ثم نكسر الجدار إليه. يقول إن الشخصية المبدعة تتسم بصفات منها معرفة الهدف بوضوح، ثم المرونة فى الوصول إليه. ومنها أنها تستطيع أن تتعايش مع المواقف والأطر الملتبسة فترات طويلة دون أن يضيع منها إدراكها لأهدافها. أرى أنه يصف الشعب والثورة. أجلس إليه فينير طريقى، أقرأ مقالاته المجمعة فى كتب الهلال فتنير طريق ثورتنا.
أبويا الحبيب: ألف كل سنة وانت طيب، وفى انتظار كتابك الجديد «مصرنا: فى سعيها نحو مستقبل أفضل».