المَهبَط
بسمة عبد العزيز
آخر تحديث:
الجمعة 18 يوليه 2025 - 9:10 م
بتوقيت القاهرة
أثلج مَهبَط الصواريخ الإيرانية على تل أبيب وغيرها من مدن يحتلها الكيان الصهيوني صدور الكثيرين. أشفى بعضًا من الغليل وعدَّل مؤشرات البوصلة من السخرية والاستهزاء إلى المؤازرة والتشجيع. انتقاءُ الهدف بدقة وتحقيق الإصابة المباشرة كانا من عوامل الإعجاب رغم محاولات إخفاء الخسائرِ من جانب العدو، والشعور الغامر بالقهر على خلفية ما يجري بفلسطين كان سببًا في سَهَر المقهورين؛ يتابعون الجديدَ ويتمنون الأثقلَ وطأة وأثرًا ويُحلِّقون بأمنياتهم بعيدًا.
• • •
المَهبَط اسم مكان من الفعل هَبَط، الفاعل هابطٌ والمصدر هبوط؛ وإذا قيل: "هبط عليه من السَّماء"؛ فإشارة لأمر مُفاجئ، حدثَ ولم يكن في الحسبان، وغالب الظنّ أنه مَرغوبٌ مُستطاب؛ فالعادة أن نرى السَّماءَ مصدر خيرٍ، وما يَسقط منها مثل المَطر بمنزلة فأل حَسن، وإذ يدعو امرؤٌ ويبتهل؛ فإنه يرفع يديه ونظره إليها، ويرنو لتلقي ما يُرضيه.
• • •
بعضُ الأحيان يَصِف النقاد عملًا فنيًا بأنه هابط، والمراد أنه يَفتقِر إلى المُقومات والشُّروط التي تصنَع منه شيئًا مستساغًا؛ بغضّ النظر عن تقييم مستواه ما بين درجات الضَّعف المُتباينة والامتياز. الهُبوطُ هنا دلالة على خللٍ شديد؛ بل وقد يُوحي بالتردِّي الأخلاقي، والوَصفُ في مُجمله طارد لقطاعٍ من الجَّماهير وجاذبٌ لقطاعاتٍ أخرى.
• • •
قد يُضطَر قائد الطائرة إلى النُّزول بها في غير المكان المُخطَّط له منذ البداية؛ ربما لعطبٍ أصابَها وشكَّل خطورة على استمرارها في طريقها، أو لحدث طارئ أصابَ وجهتَها وجعل استقبالها مستحيلا. قد يحدث الهبوطُ الاضطراري لأسباب أخرى مختلفة؛ كأن يكون على متن الرحلة راكبٌ في حال صحيَّة خَطِرة؛ مريض يُخشى على حياته ما لم يتلق رِعايةً خاصة، أو امرأة توشك على الوضع المُبكر مثلا. في مَوقِف الهبوط الإجباريّ إنقاذٌ لروح وتعطيلٌ لحركة أخرى؛ وما بين هذا وذاك يقع طيفٌ واسع من الاحتمالات.
• • •
في الآونة الأخيرة، شهدت طرقٌ عدَّة حوادثَ سَير مُرعِبة، ومنها ما تعرَّض لهبوطٍ أرضيّ مُتباين الشدَّة. تبارى الناسُ في الحديث عن الأسبابِ، وأجمع كثيرون على أن التسرُّع في تنفيذ أعمال الإنشاء والرَّغبة في الانتهاء من الطريق وافتتاحه إنما يؤثر في مستوى الجودة ويمنع الاستمرارية والدوام.
• • •
غالبًا ما يَصِفُ الواحد منا حالَ التَّعب والإنهاك وعدم القُّدرة على أداء الجهد العاديّ؛ قائلا إنه "هبطان". العادةُ أن يُسارِعَ المُحيطون به، فينصحون بتناول شيءٍ يحتوي على سُكر. بعضُ الأحيان تكون النصيحةُ مُفيدة؛ لكنها قد تصبح أيضًا مُؤذية، بل وقد تُسفِر عن نتيجة عكسية؛ فارتفاع مستوى السُّكر في الدم بصورةٍ حادة من الممكن أن يؤديَ إلى عواقبٍ وَخيمة وقد يدخلُ المَريض في غيبوبة طويلة.
• • •
للراحل أنيس منصور كتابٌ شهير عنوانه "الذين هبطوا من السَّماء"؛ يَدور حولَ مجيء كائنات فضائية هبطت على الأرض وعاشت وسط الناس وعلمتهم وشاركت في بناء الحضارات القديمة، أما كتاب "الذين عادوا إلى السماء" للكاتب نفسه ففيه بعض الحوادث الخارقة التي تؤكد حضور هذه الكائنات الفائقة. الكتابان يتمتعان بأسلوب سَلس بَسيط ومُشوق؛ بغضّ النظر عن المُحتوى الذي يختلف معه مُفكرون وكتاب عديدون.
• • •
إذا نزل المرءُ عن هيلمانه وتخفَّف من أمارات وجاهتِه، وخاطب من يعلوهم وتبسَّط في حديثه معهم وتواضَع على غير العادة؛ قيل قد هَبط من عليائه. العلياءُ مكانةٌ ومَوقِع رفيع؛ يفرض سلوكًا محددًا ويفصل بين الناس ويضع كلًّا في درجة. يبدو الأمر في ظاهره مريحًا؛ لكن العزلة التي تنشأ عن البقاء في البرج العاجي تعوق الإحساسَ المُرهَف، وتحجِب المَعرفة الحقيقية بالعالم المُحيط.
• • •
حين يحرز التلميذُ تقديراتٍ مُنخفِضَة على غير المألوف؛ يتسائل من حوله عن السّر في هبوطِ درجاته، وحين يُقيّم مَسؤولٌ طالبَ وظيفة ويجده أقلَّ مما توقَّع بمسافة كبيرة؛ فإنه يتسائل بدورِه عن أسبابِ هبوط مُستوى الشباب مِن الخِريجين والخريجات. الدائرةُ واحدةٌ والتلميذُ هو الصغير هو الخرّيج المُستقبليّ، وحالُ التعليم لا تسُر ولا تستُر، والتخبُّط في الرؤية والتخطيط ما برح يؤتي ثمارَه المَعطوبة.
• • •
تتداول النشرات المتخصّصة أنباءً عن المؤشرات الاقتصادية المتنوعة، تعلن عن هبوط أسهم البورصة أو صعودها، تستخدم مصطلحات قد تبدو غامضة في أذهان غالب المتلقين؛ لكنها عند العارفين بمعانيها ودلالاتها معتادة مألوفة.
• • •
يُقال إن هبوطَ الطائرة الناعم الذي يجري في انسيابية تامة ومُثيرة للإعجاب؛ نوع من المُغامرة التي قد تصبح خَطِرة. يُقال أيضًا إن احتكاكَ العجلاتِ بالأرض في قوة يُساعد على تثبيت الجِسم الثقيل، ويمنعه من الزيغ أو الانحراف عن مساره، رغم هذا يفضلُ الركابُ الحالَ الأولى التي تعطيهم شعورًا هادئًا طيبًا، على الحال الثانية التي تعرضهم إلى صَدمةٍ لحظية.
• • •
يتحدث الأطباءُ عن هبوط عضلةِ القلب كأحد أسبابِ المَوت المُحتمَلة، والحقُّ أن العضلةَ باقيةً في مكانها لم تغادره قَط؛ لكنها ضعفت وتقاعَست عن أداء عملها بالعزمِ الواجب. تحتوي بعضُ شهاداتِ الوفاة على جُملة "هبوط حاد في الدورة الدَّموية"، يكون الأمر طبيعيًا معظم الأحيان وغير ذلك في أحيان أخرى؛ فرغم أن الهبوط توصيفٌ مَعروف؛ لكنه مُجرد عَرَضٌ لما توارى واحتجَب.