حضور القصة القصيرة
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
الجمعة 18 أغسطس 2017 - 9:45 م
بتوقيت القاهرة
أتصور أن العامين الأخيرين قد شهدا حضورا قويا ولافتا للقصة القصيرة، صحيحٌ أن رصدَ غيابٍ شامل لفن رفيع كالقصة القصيرة عن المشهد الإبداعى يبدو أقرب إلى النكتة منه إلى واقع متعين، فإن أيضا خفوتا ملحوظا لحضور هذا الفن مقارنة بطغيان الرواية لم يغب عن بعض النقاد ومؤرخى الأنواع الأدبية فى العقدين الأخيرين.
مع مطالع 2017، برزت أكثر من مجموعة قصصية جيدة على الساحة بقوة ورسوخ، ولعبت جائزة مثل «ساويرس» وجائزة الملتقى الكويتية، دورا فى إعادة الاعتبار لهذا الفن الخطير، واجتذاب الأقلام الطموحة للتنافس فى كتابتها. الرواية صارت مطية لكل من هبّ ودبّ (اللى مش فاهم والباحث عن الشهرة وكله فى كله!!) كثيرون يظنون وهما أن الأحجام الكبيرة وعدد الصفحات المهول وما يسمونه «الرواية الكعب» قد يخفى ضعف الموهبة أو عجز التعبير أو فقر الفكر وضحالة الخيال!
أما القصة، ولأنها فن التكثيف والتقطير والحساسية العالية، فسريعا يتم الفرز ولا يبقى إلا الأصيل والمميز، بضع قصص تضمها مجموعة واحدة أو اثنتين قد تكون مؤشرا صادقا على حجم الموهبة ومستوى الكتابة ووعى صاحبها الفنى.
فى الرواية هناك الآن أطفال بالتصنيف العمرى والطبيعى يطلقون على أنفسهم لقب «روائيين»!! بعضهم لم يكمل عامه السادس عشر بعد، ويكتب على صفحته أنه أصدر قرابة الروايات العشر! ما علينا، فلم يعد هذا أمرا مستبعدا فى زمن الفوضى واختلاط المعايير والمفاهيم.
لكن من النادر أن تجد فى ظلال هذا المشهد المضطرب المرتبك من يصف نفسه بـ«القاص» بوعى وثقة. القصة القصيرة حتى فى أشكالها الكلاسيكية فن صعب؛ لأنها تتعامل مع لحظة إنسانية واحدة، تعتصرها حتى النهاية، قد يكون لديك عشرات الأشخاص والتفاصيل، ولكن القصة القصيرة تجمعها فى بؤرة لحظة واحدة، إنها أشبه ما تكون بتلك العدسة التى تجمع خيوط الضوء، فتصنع من النور نارا، قوة هائلة تجعلنا نتأمل أنفسنا والعالم بصورة أفضل وأعمق..
كذلك فإن التأهل لكتابتها مُضنٍ، ويستدعى قراءات واسعة وشتى بالتوازى مع التدريب المستمر ومداومة التمرين، وفى ظنى فإن جهد التحضر لها وممارستها بحقها يفوق الرواية بمراحل.
أى مقارنة بسيطة وعابرة بين عدد الروايات التى صدرت فى السنوات الخمس الأخيرة والمجموعات القصصية ستشير إلى الاكتساح الروائى بلا جدال. لكن، وهنا نتوقف قليلا، بدا أن عودة ملحوظة للإبداع القصصى فى مستوياته الفنية الجيدة تبزغ من جديد، فهناك وفرة لافتة من المجموعات القصصية لأسماء كتاب ينتمون لأجيال مختلفة ومدارس متنوعة واتجاهات متباينة.
قبل معرض الكتاب الأخير بفترة وجيزة، وأثنائه، صدرت عشرات المجموعات القصصية، وقع منها تحت عينى قرابة الخمس عشرة مجموعة أو يزيد قليلا، ومنها ما أغرانى بضرورة قراءة هذا النتاج القصصى باهتمام ومتابعة ودأب، تذكرت على الفور جهود أستاذنا الناقد الراحل على الراعى الذى لم تكن تفوته شاردة أو واردة من النتاج القصصى المعتبر إلا وكتب عنها (جمع كتابه المهم «القصة القصيرة فى الأدب المعاصر» شيئا ليس قليلا من هذه القراءات).. ولا بد من الاعتراف بأن متابعة القصة نقديا قد انحسرت أو غابت تقريبا مع غياب نقادها الأفذاذ (شكرى عياد، على الراعى، مثالا).
إن مجموعات مثل «السهو والخطأ» لحسن عبدالموجود، و«عين سحرية» لمى التلمسانى، و«شوارع السماء» لوجدى الكومى، و«كنائس لا تسقط فى الحرب» لأريج جمال، و«قبِّل بنتا حزينة» لحمدى عبدالرحيم، و«من الشباك» لأحمد خير، و«عالم فرانشى» لعمرو العادلى.. وغيرها، أقول إنها تغرى بقراءة جادة ورصد دقيق لجمالياتها المتنوعة وطرائق تعبيرها ولغتها المختلفة..
وهى كلها فى النهاية تؤكد أن بئر الإبداع بخير لم تنضب وأنها وافرة الخيرات لمن يبحث عنها.