الفقر والتنمية.. هل هما ضدان لا يجتمعان حقا؟

محمد عبدالشفيع عيسى
محمد عبدالشفيع عيسى

آخر تحديث: الجمعة 18 أغسطس 2023 - 7:35 م بتوقيت القاهرة

الفقر والتنمية أقنوم ذو حدين، يبدوان وكأنهما ضدان لا يجتمعان، برغم الشائع من التفكير فى حقل النظر ومجال العمل.
فما الفقر؟ هذا سؤال إشكالى عجيب، وما أسهل مظهره، وأصعب مخبره الفكرى العميق. فأما أنه سهل المظهر فهذا يتجلى فى بساطته اللغوية، وسرعة انتشاره عبر الزمان والمكان... وهل يختلف أحد فى أن الفقر معبر عن شح الموارد فى مواجهة ثراء الاحتياجات وكثرتها الكاثرة وتنوعها فى كل الأبواب؟
وأما مكمن الصعوبة فى المخبر، أو جوهر المحتوى، فهذا يتجلى فى التواءات المنحنى العام للفكر الفلسفى حول الفقر منذ نشأ الحديث عنه، فى مختلف المدارس النظرية، من أبسطها إلى أكثرها تعقيدا، كما يتجلى الأمر فى مناحى الفكر غير الفلسفية على اختلافها.
وأما عن التنمية فحدث ولا حرج، منذ بزغت فكريا فى صورة جنينية ثم متبلورة نسبيا، فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، مع غروب شمس الاستعمار، ونشوء تجارب النمو ذات الطابع الاستقلالى حتى ولو لم يكن استقلالا حقيقيا، بين ربوع آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.
وكان ذلك بدءا من الصورة المبكرة فى أمريكا اللاتينية هذه منذ أوائل القرن التاسع عشر، عقب الاستقلالات الناقصة عن المستعمرين السابقين وخاصة إسبانيا والبرتغال. ومن بعدها، بزغت آسيا وإفريقيا، ساحة تنموية تحت لواء سرعان ما ظلله (التضامن الآسيوى ــ الإفريقى) بدءا من مؤتمر «باندونج» عام 1955. ولاتساع ساحة المجادلة النظرية، وعمق التجربة العملية التنموية، فى عصر «ما بعد الاستعمار» Postــcolonialism مع التفرقة الحاسمة بين (الاستعمار القديم) المتوسل بالاحتلال العسكرى والإخضاع السياسى، وبين الاستعمار الجديد المتشح بثياب الهيمنة الاقتصادية (وربما الاجتماعية والثقافية أيضا)، كما أوضح كوامى بتكروما، الزعيم الغانى الكبير فى دراسته الموسومة (الاستعمار الجديد). من ثم أزهرت مدارس الفكر التنموى، وبالأحرى، الإنمائى، ابتداء من «الفكر» ذى الرداء والمحتوى الغربى بأصوله الأمريكية ــ الأوروبية وخاصة ذات الطابع الشكلى والخطى، والعنصرى أيضا. ولن نفيض فى ذلك، فهو مبسوط فى مطارح الفكر الإنمائى الأولى فى الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم.
ومن بعد نقطة الابتداء فى الأربعينيات والخمسينيات، جاءت نقطة الارتفاع على المنحنى فى الستينيات من ذات القرن المنصرم، مع تجلى أفكار الأوائل من أئمة التفكير التنموى، مثل هانس سنجر وروزنشتين رودان وبنت هانسن من بعد ذلك، ومن إليهم.
• • •
لكن فى السبعينيات، أوائلها، أخذ الفكر الغربى يحاول إزاحة التنمية عن عرشها الأثير، بمختلف مدارسها، فى محاولة جد جريئة لاستبدال التنمية بقوالب فكرية مستجدة ذات لون قشيب.
كان «روبرت ماكنمارا» رئيس البنك الدولى ووزير الدفاع الأمريكى الأسبق، سباقا فى طرح دور البنك فى مكافحة الفقر، كبديل لما كان يقال له التنمية من قبل، وسرعان ما أصبح «التحديث» modernization المتشح بثوب مكافحة الفقر Poverty Alleviation هو المذهب الفكرى الجديد. ومع ظهور الدعوة إلى (نظام اقتصادى عالمى جديد) منذ منتصف السبعينيات، جريا على سنة التفكير المتجدد فى الجمعية العامة للأمم المتحدة، وخاصة من خلال الإعلان عن إقامة (نظام اقتصادى عالمى جديد) الصادر عن الدورة السادسة للجمعية عام 1974، ثم قرار إقامة نظام اقتصادى عالمى جديد عام 1975، تلا ذلك «الحبل على الجرار»، حتى أصبح ميدان الدعوة للنظام العالمى الجديد هو لب التفكير التنموى: انطلاقا من مفهوم «الحاجات الأساسية Basic Needs، والاعتماد على النفس Selfــ Reliance، والتكامل الإقليمى Regional integration.
حينذاك بدا أن فكر تنمية الستينيات، القائم على إحداث «التحولات الهيكلية» بالاقتصادات القومية تحت لواء التصنيع، أصبح فى (خبر كان) كما يقولون، وانزوى الحديث عن الاستقلال الحقيقى للاقتصادات النامية والاعتماد على الذات، وانزوت فكرة مقاومة «التبعية» والتطور اللامتكافئ والتبادل غير المتكافئ.
وانظر فى ذلك إلى سمير أمين وأضرابه من أعلام الفكر التنموى الاستقلالى مثل سلسو فرتادور، ولولا داسيلفا، وأندريه جوندر فرنك وآخرين.
مهد ذلك كله، أرضية خصبة، لبزوغ مذهب «التنمية البشرية»، قرينا لمكافحة الفقر، بديلا عن التنمية الاستقلالية، ومقاومة التبعية وإحداث التحولات الهيكلية باتجاه التصنيع والزراعة المصنعة، وبديلا عن نهج التحول الاجتماعى المصاحب للصناعة بمحتواها الهيكلى، بل وبديلا عن «العدل الاجتماعى» وإزالة التفاوتات الطبقية «غير المبررة».
أصبح مذْ ذاك، للتنمية البشرية، مليك متوج قرينا لمكافحة الفقر وذلك على النحو التالى: توجيه عملية التنمية ليس إلى التحول الهيكلى ومقاومة التبعية وتحقيق العدالة التوزيعية، ولكن إلى سد رمق الفئات والجماعات الفقيرة، من خلال:
ــ مواجهة فقر القدرات، خاصة التعليمية والصحية.
ــ مواجهة فقر الدخل، من خلال الاتجاه المباشر لرفع مستويات الدخول الفردية، بالعمل على الحد من البطالة.
ولكن هل يمكن تحقيق ذلك بعيدا عن التحول الهيكلى والاستقلال القومى والعدالة؟ هذا ما ادعاه المدعون استنادا، إلى فكر «النظام العالمى الجديد».
• • •
لم تعد التنمية إذن هى لب العمل الاقتصادى الاجتماعى الحقيقى، وإنما أصبح العمل على «القشور» هو الحل: تخفيف الفقر، تحسين مستويات ما يسمى بالتنمية البشرية. وهكذا وقع المحظور وأصبحت مكافحة الفقر ورفع مستوى التنمية البشرية، بمثابة الضد الذى لا يجتمع مع التنمية بالذات.
وفى النهاية، لم يصبح الفقر نتاجا للتفاوت الطبقى، كما كان يقول أئمة العدل والفكر الاشتراكى والجماعى الحقيقى، وإنما فقط أصبح هناك «فقراء» قد يزيد عددهم أو يقل، ويتم التعامل معهم بأدوات (روبرت ماكنمارا) عن الفقر، وأفكار (أمارتيا سن) عن رفع مستويات الدخول والقدرات، ولا حاجة لديهم إذن للغوص فى خضم التفاوت الحقيقى، بين المالكين لرأس المال، والمجردين من الملكية، ويصبح الأمر فى غاية السهولة، إذ صح التعبير.
فهل هذا صحيح علميا، ولا نقول فكريا ونظريا أيضا؟ هل أن مجرد التعامل مع قشور الفقر، بأدوات الدخل المتغير من وقت لوقت، والقدرات، المتحولة تحت سلطان النظم السياسية، هل هذا يغنى عن التنمية الحقة، كتحول جذرى، وعدالة اجتماعية واستقلالية وطنية؟
لا لن يغنى بحق، وإنما هذه أفكار تسعى إلى إزاحة أفكار، فهل يمكن إزاحة فكر التطور الاجتماعى والعدالة والاستقلالية، لمجرد إشباع حاجات متحولة، باسم مكافحة الفقر وتحسين مستويات التنمية البشرية.
هذا ما لا نراه.. وإن كان البعض يرى أن التنمية والفقر ضدان لا يجتمعان، فهذا لا يغير من الحقيقة الحقة، وهى أن التنمية تتضمن فى حد ذاتها العمل على استئصال الفقر نفسه، طبقيا واجتماعيا بالذات.
من ثم يمكن القول فعلا بمعنى معين إن التنمية والفقر ضدان لا يجتمعان، فمجرد خوض غمار التنمية عبر الزمن بالطريقة الصحيحة، كما أشرنا، هو السبيل لإزالة الفقر من الوجود، وصدقا أشار الإمام على ابن أبى طالب «لو كان الفقر رجلا لقتلته».
ولئن كان الفقر قد تنوعت مظلاته ومحتوياته، من النظام العبودى الأوروبى والإقطاعى والرأسمالى المتوحش، فإن سبيل مواجهته هى: تنمية حقة.
وإن كان الفقر قد تقادم الزمن بأدواته الفكرية تحت لواء «الزهد والتقشف»، ومع الدعوات والأديان الأخلاقية ــ الآسيوية مثلا، وما إليها، مثل البوذية والكونفوشيوسية والزرادشتية والأديان «السماوية» فى تجلياتها الإسلامية والمسيحية الشرقية بالذات... إلا أن الفكر لم يتقادم بمفهوم التنمية وجوهرها التحولى ــ العدالى ــ الاستقلالى عبر الزمان.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved