أيام القدس ورام الله

شريف عامر
شريف عامر

آخر تحديث: الإثنين 18 أغسطس 2025 - 6:30 م بتوقيت القاهرة

لا أعرف تحديدًا متى بدأت علاقتى بفلسطين؟ هل كان ذلك يوم جذبت أمى ذراعى بشدة حتى كاد ينخلع، وأنا فى العاشرة من عمرى؟
قررتُ فجأة الانضمام إلى مظاهرة صغيرة احتجاجًا على وجود جناح إسرائيلى لم يتكرر أبدًا فى معرض القاهرة الدولى للكتاب.
هل كان يومًا أفتح فيه باب البيت ــ ولو بعد انتصاف الليل ــ لصديق أبى، المناضل المصرى النبيل رءوف نظمى، الذى انضم ميدانيًا إلى منظمة التحرير الفلسطينية؟
كنت أسمعهما يتحدثان، وأربط ما أسمع بما أشاهده خبرًا بصوت وصورة الكبير الراحل محمود سلطان فى نشرة التاسعة على شاشة التليفزيون!
• • •
تدفقت الخواطر عندما وجدت نفسى فى غرفة واسعة فى فندق بأحد أحياء القدس العربية، فى نهار يوم من مايو 1999.
كانت الزيارة الأولى ضمن أربع تتابعت، وإن تباينت مدتها من أسبوع إلى شهرين كاملين بعد ذلك وحتى 2003.
المهمة الأولى: أن أنقل نبض الأراضى الفلسطينية والضفة تجاه عملية سلام متعثرة، ورجل سموه «المهاجر». مصطلح يقلل من شأن من يترك إسرائيل وقتما شاء ويقيم خارجها. عاش سنوات طويلة فى الولايات المتحدة كأمريكى ينتسب للحزب الجمهورى.
اعتبرته الكتلة السياسية خفيف الوزن وقصير العمر، لكنه انقلب على الجميع وأصبح اليوم كما يحب أن يُسمى: «ملك إسرائيل».
تفوق الرجل على من سبقوه وأقام دولته. عرف أجيال هذه الأيام أن فظائع التأسيس لم تكن خيالًا، بل إنها كانت أقل كثيرًا مما كُتب عليه هو اسمه من فظائع اليوم. إنه بنيامين نتنياهو.
• • •
كانت الخامسة مساءً، وفى النهار بقية، وتوترى فوق الاحتمال. تذكرت ما قاله أخ الطفولة والشباب حمدى التميمى: «حسام فى الخليل من شهر، روح له».
حمدى وحسام ــ رحمهما الله ــ ينتميان لأسرة التميمى الشهيرة من أعيان الخليل، وهما من فرع أصيل للعائلة فى القاهرة منذ 1924.
نفذت نصيحة حمدى أسرع مما توقعت!
قفزت فى تاكسى وسط أهل الضفة الخارجين من القدس إلى الخليل.
فى الطريق، سألت عن آخر موعد للعودة إلى القدس، فكانت الإجابة الصادمة: «لا عودة إلا الصبح إن شاء الله»!
• • •
استمتعت ساعات بكرم «التمايمة»، وثناؤهم على شجاعتى فى الوصول إليهم، ثم تعجبهم من إصرارى على العودة للقدس مرة ثانية ليلًا.
«هما دلوقتى شايفنا بالكشافات. الحمد لله أننا مش لابسين هدوم تقيلة، وده يستبعد أننا جايين نفجر نفسنا، وفيه احتمالين بس: اللى يقرب دلوقتى إمّا ورق سليم 100٪ أو معتوه».
قالها حسام التميمى وودعنى على مسافة 150 مترًا تقريبًا من بوابة الحاجز. هذه المسافة هى امتداد الممر الحديدى المتعرج بعرض شخص واحد حتى الوصول إلى الجندى الإسرائيلى.
استحضرت إرشادات العم حسن عيسى، وأظهرت جواز سفر المهمة الرسمى الذى لا تنطبق على حامله هذه الأيام قرارات الإغلاق بين مدن الضفة. بحسم ووضوح قلت له إننى سأنتظر أى تاكسى، وإذا لم يكن يرغب فى بقائى فى المكان، فمن الأفضل أن يساعدنى. قال إن علىَّ الانتظار تحت رقابته، وهو ما استمر حوالى ساعة ونصف حتى أوقف تاكسى.
• • •
وصلت الفندق بعد انتصاف الليل، لمحاولة نوم متقطع حتى تمر علىَّ صباحًا مراسلة قناة النيل للأخبار، الزميلة الغالية شروق أسعد، ونبدأ أيام العمل السبعة.
هل أبدأ بالحكى عن وضع القدس العربية الذى لا نعرف عن حياة أهلها سوى قشور؟
هل أبدأ بصوت رفيق العمر محمد عبد المتعال الذى رأى صورتى عبر القمر الصناعى قبل بدء البث فى اليوم الأول، فجاء صوته عبر التليفون صارخًا: «محمد جوهر بيقولك تقلع البتاع اللى إنت لابسه ده فورًا»!
كان يقصد صديريًا واقيًا من الرصاص عند إحدى نقاط الاشتباك بين الشباب الفلسطينى والقوات الإسرائيلية. كان الصديرى مموهًا، فاعتبرته أنا أكثر أمنًا وحماية، بينما لونه يجعلنى هدفًا لقناص لا أراه.
ماذا عن وقفة النصف ساعة مع مروان البرغوثى عند نقطة المواجهات، وعيونه تفحص وتراقب وتحدد حركة واتجاه الشباب من حوله؟
من القدس، وأبو ديس، ورام الله، والخليل، وقلقيلية، حتى شمال فلسطين التاريخية، التفاصيل والصور كثيرة وألوانها فى الذهن لم تبهت أو تخفت بفعل الزمن.
• • •
فى ليلتى الأولى، وخلال مطاردتى النوم، طرأ سؤال. الغريب أننى لم أطرحه أبدًا حتى الآن: لماذا وقع اختيار الأستاذ حسن والأستاذة سميحة عليَّ لهذه المهمة وما بعدها؟
سأذهب الآن لسؤالهما، وأعود لكم بتفاصيل صور أخرى من بعض أيام القدس وأخواتها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved