الولايات المتحدة خطر على أمن العرب
مصطفى كامل السيد
آخر تحديث:
الأحد 18 سبتمبر 2016 - 10:25 م
بتوقيت القاهرة
على الرغم من ادعاء الولايات المتحدة بأنها تدافع عن القانون الدولى وأمن العالم، إلا أن إداراتها المتعاقبة تضع نفسها فوق القانون الدولى، ولا تتبعه إلا عندما يتفق مع مصالحها، وتنتهكه متى شاءت حسب هذه المصالح وعلى نحو يهدد أمن العالم. صحيح أن تدخل الولايات المتحدة العسكرى كان يتم أحيانًا لصالح إنقاذ العالم من قوى استبدادية ونجدة لنظم ديمقراطية. مثلما كان الحال فى السنوات الأخيرة من كل من الحربين العالميتين الأولى والثانية، فقد تدخلت فى الأولى إلى جانب النظم الديمقراطية وضد نظم استبدادية فى ألمانيا القيصرية وإمبراطورية النمسا والمجر، وتدخلت فى الثانية ضد دول المحور النازية والفاشية والعسكرية فى ألمانيا وإيطاليا واليابان. ولكن فى حالات أخرى لم يكن تدخل الولايات المتحدة لا لصالح الديمقراطية أو ضروريًا لإقرار السلام.
خذوا مثلاً موقف الولايات المتحدة من قضية منع انتشار الأسلحة النووية، فحكومتها تعتبر أن انتشار هذه الأسلحة يقوض السلام العالمى، وأن حصول دول فى آسيا وأفريقيا على هذا السلاح هو مخاطرة كبرى لأن قيادات هذه الدول فى رأيها ليست من النضوج والخبرة بحيث تدرك النتائج الخطيرة التى تترتب على استخدام هذا السلاح، ومع ذلك يسجل التاريخ أن الدولة الوحيدة التى استخدمت السلاح النووى دونما ضرورة تدعو لذلك كانت هى الولايات المتحدة الأمريكية مرتين ضد اليابان فى هيروشيما وناجازاكى فى أغسطس سنة 1945، وعندما كان معروفًا أن الحكومة اليابانية كانت فى طريقها لقبول الاستسلام، ولكن شاء الرئيس هارى ترومان أن يلقنها درسًا انتقامًا للهجوم اليابانى على بيرل هاربر. بل إن الدولة التى فكرت فى استخدام محدود للسلاح النووى هى حليفة للولايات المتحدة، وهى إسرائيل أثناء الأيام الأولى لحرب أكتوبر 1973.
وتمارس الولايات المتحدة نفاقًا واضحًا عندما يتعلق الأمر بموقع الدولة التى قد تملك قدرات نووية فى خريطة تحالفاتها، فلو كانت دولة حليفة مثل إسرائيل، فهى تمرر لها مواد نووية سرًا، وتتجاهل تمامًا امتلاكها لما يقدر بمائتين من الرءوس النووية ووسائل نقلها، أما لو كانت دولة تستقل بسياستها الخارجية عما تمليه الولايات المتحدة، مثل إيران، فهى تفرض عليها العقوبات وتخضعها لنظام من القيود والتفتيش يبعدها عن مجرد عتبة امتلاك القدرة على تخصيب اليورانيوم بدرجة تقربها من صنع السلاح النووى.
تاريخ الولايات المتحدة فى أمريكا اللاتينية معروف، ليس فقط عندما كانت تكافح تدخل الدول الأوروبية فى شئون بلادها تحت غطاء ما عرف بمذهب مونرو، ولكن حتى بعد أن سلمت القوى الأوروبية لها بأن أمريكا اللاتينية هى فناؤها الخلفى، فقد شاءت إدارات متعاقبة فى الولايات المتحدة ألا تعترف لهذه الشعوب بحقها فى تقرير مصيرها ومن ثم فقد كانت وراء انقلابات عسكرية أطاحت بحكومات إصلاحية فى جواتيمالا فى 1953، وفى البرازيل فى 1964 وفى شيلى فى سنة 1973 لا لشىء إلا لأن هذه الحكومات كانت تريد الحد من الامتيازات الهائلة التى كانت تتمتع بها الشركات الأمريكية فى هذه الدول والتى كانت تزاول نشاطها فى أوضاع شبه استعمارية. قد يقول بعض القراء هذا كلام معروف سمعناه كثيرًا، وهذا تاريخ انقضى. ماذا عن الولايات المتحدة الآن، وموقفها من قضايا الأمن فى إقليمنا فى الشرق الأوسط؟ أو ألم يسمع كاتب هذه السطور بمساعى جون كيرى وزير الخارجية الأمريكى لإقرار السلام فى سوريا؟ الإجابة على هذا السؤال هى أن تاريخ الولايات المتحدة المعاصر فى الشرق الأوسط، وخصوصا فى أعقاب انتهاء الحرب الباردة هو أفضل دليل على أن سياساتها فى الإقليم كانت السبب الرئيسى لانهيار الأمن فيه. وليست هناك ندرة فى الأمثلة على هذا الدور التخريبى، سواء كان ذلك متعمدًا من جانب إدارات أمريكية، أو أنها كانت من السذاجة بحيث لم تفطن للنتائج التى يمكن أن تترتب على سياساتها هذه.
***
المثل الأبرز هو بكل تأكيد غزو الولايات المتحدة للعراق فى مارس 2003. أولاً كان هذا الغزو انتهاكًا فاضحًا للقانون الدولى فلم يحظ بموافقة مجلس الأمن على الرغم من الضغوط الحثيثة التى مارستها مع بريطانيا على الدول الأعضاء فيه للحصول على موافقتها، بل وشهد كبار المسئولين فى المنظمة الدولية الذين أشرفوا على التفتيش على المنشآت العراقية مثل ماكس بليكس والدكتور محمد البرادعى على أنه لم يكن هناك دليل على حيازة العراق لأسلحة دمار شامل أو برنامج نووى، وهى من الذرائع التى ساقتها إدارة الرئيس جورج بوش الابن لتبرير الحصول على قرار دولى يؤيد العمل العسكرى ضد العراق. وطبعًا لم تجرؤ الإدارة الأمريكية فى ذلك الوقت أن تدعى أمام مجلس الأمن أن حكومة العراق تساند الإرهاب الدولى، وإن كان الاعلام الأمريكى قد ردد قصة اللقاء المزعوم بين محمد عطا القائد المدعى لهجوم 11 سبتمبر2001 ومسئول فى المخابرات العراقية فى براغ أسابيع قبل هذا الهجوم، وكررت قناة فوكس نيوز على المشاهدين الأمريكيين الادعاء بأن حكومة صدام حسين كانت وراء هجمات سبتمبر هذه، وهو ما دعا الرأى العام الأمريكى لمساندة غزو الولايات المتحدة لهذا البلد العربى.
طبعًا لم تجد القوات الأمريكية بعد غزو العراق أى دليل على حيازة العراق لأسلحة دمار شامل أو برنامج نووى أو تواطؤ بين الحكومة العراقية ومنظمات إرهابية مثل تنظيم القاعدة الذى كان من المعروف أنه يناصب نظام البعث العراقى العلمانى كل العداء. ولكن الأخطر من ذلك هو أثر هذا الغزو على الأمن الإقليمى فى الشرق الأوسط. أطاح هذا الغزو بنظام عربى كان يمثل حتى فى ضعفه تحت العقوبات التى فرضتها عليه الأمم المتحدة منذ 1991 قطبًا مناوئًا لإيران، ومن ثم محققًا نوعًا من التوازن معها يحد من مطامح النظام الإيرانى الإقليمية. ولكن سقوط هذا النظام وتفكيك مؤسسات الدولة العراقية العسكرية والأمنية والبيروقراطية لم يفتح الباب لإيران لمد نفوذها فى الشرق الأوسط ككل فحسب بل إنه قبل ذلك وضع العراق ذاته تحت الوصاية الإيرانية بفضل نظام المحاصصة الطائفية الذى هيأ للشيعة العراقيين السيطرة على ما تبقى وما أعيد بناؤه من مؤسسات الكيان العراقى الجديد.
بل الأدهى من ذلك أن غزو العراق بدلاً من أن يكون بحسب ادعاءات المحافظين الجدد الذين خططوا له حتى قبل أحداث الحادى عشر من سبتمبر وسيلة للقضاء على الجماعات الإرهابية، فإنه بإسقاطه مؤسسات الدولة العراقية من جيش وأجهزة أمنية، وبتهميشه للقيادات السنية وباستهانته بكرامة العراقيين وبممارساته القمعية ضدهم خلق الظروف التى ساهمت ليس فى إزكاء المقاومة المسلحة لهذا الاحتلال فحسب ولكن فى نشأة أشد التنظيمات الإرهابية تشددًا، وهى ما أصبح يعرف باسم داعش. لم يجد كاتب هذه السطور ما يشير إلى أن الولايات المتحدة هى التى أنشأت هذا التنظيم، ولكن نتائج الغزو الأمريكى للعراق هى التى شجعت أمثال مصعب الزرقاوى ومن بعده أبو كر البغدادى على تكوين هذا التنطيم كفرع من تنظيم القاعدة أولًا ثم مستقلًا عنها بعد ذلك، ولكى يتمايز عن القاعدة جعل اهتمامه الأول فى ظروف التوتر الطائفى الذى عرفه العراق بعد إقرار نظام المحاصصة هو الهجوم على الشيعة العراقيين ثم كل المخالفين لرؤاه المتطرفة أيًا كانت عقيدتهم.
***
هكذا أثمر إسقاط الولايات المتحدة للدولة العراقية فتح الباب أمام إيران لمد نفوذها من العراق إلى سوريا وتوسيعه فى لبنان وإيجاد قاعدة لها فى اليمن والتعاون مع حليف قوى فى فلسطين تمثله حماس، وولادة تنظيم إرهابى احتل مساحات واسعة من العراق وسوريا وباشر نشاطه فى لبنان والسعودية وليبيا ومصر، وهدد مؤخرًا العديد من الدول الأوروبية، بل ووجد من يدينون بأفكاره فى الولايات المتحدة ذاتها.
وقد كان غزو العراق حلقة جديدة فى مسلسل إهدار الأمن العربى على يد الولايات المتحدة الأمريكية، فهى رغم كل ما تقوله خارجيتها عن تأييدها لحل الدولتين كأساس لتسوية الصراع الفلسطينى ــ الإسرائيلى، فهى السند الرئيسى لكل ما تقوم به إسرائيل من تهديد للأمن القومى العربى، وعلى الرغم من الإهانات التى تلقاها الرئيس باراك أوباما على يد بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلى فقد كافأه قبل أن يغادر البيت الأبيض بمنح إسرائيل مساعدات عسكرية تصل إلى ثمانية وثلاثين مليار دولار على مدى عشر سنوات تشمل تمويل الولايات المتحدة لبرامج عسكرية إسرائيلية دون أن تربط مثل هذه المساعدة السخية بأى شروط تجعل إسرائيل تتحرك بضع خطوات نحو الاستجابة للمطالب المشروعة للفلسطينيين والسوريين بجلائها عن أراضيهم المحتلة. وهكذا بالدعم الأمريكى السخى يستمر تقويض إسرائيل للأمن فى قلب العالم العربى.
***
وقد يسأل القراء هل يعتبر سعى جون كيرى للوصول إلى هدنة فى سوريا أو قبل ذلك تسوية بين الفلسطينيين وإسرائيل، خروجًا على هذا النمط فى السياسة الأمريكية التى تقوض الأمن العربى؟ أجهزة أخرى فى الحكومة الأمريكية أقوى بكل تأكيد من جون كيرى تواصل العبث بأمن الإقليم. مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية لا يرى مستقبلًا لسوريا موحدة. والكونجرس الأمريكى يتحدى القانون الدولى ويصدر تشريعًا يسمح للأمريكيين الذين أضيروا فى أحداث الحادى عشر من ديسمبر برفع دعاوى ضد حكومة المملكة العربية السعودية أمام محاكم أمريكية، ومرشح الرئاسة الجمهورى دونالد ترامب يهدد باحتلال سوريا ومنع المسلمين من الدخول إلى الولايات المتحدة. ألا يزكى ذلك كله العداء للولايات المتحدة فى الشرق الأوسط، ويهدد باندلاع حرائق جديدة تهدد أمن شعوب المنطقة ومعها مصالح الولايات المتحدة فيه؟.