عصر «ما بعد.. الأيديولوجيّات»
سمير العيطة
آخر تحديث:
الأحد 18 سبتمبر 2022 - 10:00 م
بتوقيت القاهرة
يتردّد القول اليوم أنّ هذا العصر هو عصر «ما بعد.. الأيديولوجيّات». وهذا يرمز عموما إلى انهيار التوجّهات الفكريّة «اليساريّة» بعد زوال الاتحاد السوفياتى والتجربة العالميّة التى رافقته، ومقابل ذلك انتصار التوجّهات الفكريّة «الليبراليّة الديمقراطيّة» التى رافقت صعود الولايات المتحدة وتوسّع رقعة هيمنتها. لكنّ المفارقة هى عودة «أيديولوجيّات» أخرى وتنامى صعودها بحيث غدت ذات قوّة غير مسبوقة وباتت تُشكِّل أرضيّة الصراعات العالميّة الحاليّة، داخل البلدان.. وبينها، وعلى رأسها الأيديولوجيّات «القوميّة ــ الإثنيّة» و«الدينيّة ــ المذهبيّة»، أى أيديولوجيّات «الهويّات».
الفارق الكبير بين هذه وتلك، هى أنّ الأيديولوجيّات الأولى بُنيَت على طوباويّات مستقبليّة متخيّلة، بينما قامت الأخيرة على فكرة استرجاع.. الماضى.. المتخيّل أيضا.
فى زمن احتدام الصراع بين يمين ويسار، كانت هناك إشكاليّات كبرى. مثال ذلك أنّ النهج «الشيوعىّ» للاتحاد السوفياتى والصين والدول المثيلة لهما عرف قمع الحريّات الفرديّة والجماعيّة بشكلٍ كبير. لكنّه نهجٌ أعاد فى المقابل تأسيس دولة ومجتمع متماسكين لإمبراطورية روسيّة كانت تتهالك على خطى الإمبراطوريّة العثمانيّة ولإمبراطوريّة «الوسط» الصينيّة التاريخيّة التى كانت رهن احتلالات خارجيّة قاسية ومّذلّة. وعلى الجهة المقابلة، نمت «الليبراليّة الديمقراطيّة» الأمريكيّة فى أتون صراعات دمويّة استهدفت الشعوب المحليّة من الهنود الحمر وأبناء القارّة الآخرين مع استغلال استمرّ طويلا للأفارقة الذين جرى استخدامهم بأعدادٍ كبيرة كـ«عبيد». وقد كلّف التخلّص من نظام العبودية حربا أهليّة طاحنة فى الولايات المتحدة، وكان العدول عن نظام التمييز العنصرى قد تطلّب نضالات طويلة. إلاّ أنّ ما تمّ اكتسابه داخليّا انتهى به الأمر كى تتحوّل الولايات المتحدة فى سياساتها الخارجيّة من مبادئ ويلسون حول حقّ الشعوب فى تقرير مصيرها إلى تنظيم انقلابات وغزو للبلدان تحت غطاء.. «نشر الديمقراطيّة». بالتوازى كان اليسار الفرنسى، المنتخب ديمقراطيّا، أكثر قسوة حيال الجزائر المستعمرة وفى صراعه مع عبدالناصر فى حرب السويس عام 1956 من الجنرال ديغول اليمينى «الانقلابى» الذى تعامل بشكلٍ أكثر عقلانيّةً مع واقع نهاية حقبة الاستعمار المباشر.
وكان نجم التجربة «الشيوعيّة» السوفياتيّة قد سقط أيديولوجيّا منذ خمسينيات وستينيات القرن الماضى عندما تمّ، وبقوّة المدرّعات، قمع حراك شباب تشيكوسلافاكيا من أجل «اشتراكيّة ذات طابع إنسانى». وكان نجم التجربة «الليبراليّة الديمقراطيّة» الأمريكيّة قد سقط بالتوازى يوم شَرَعَت الولايات المتحدة بانقلابٍ وتصفيات دمويّة ضد سلفادور اللندى المنتخب ديمقراطيّا فى تشيلى.
رغم ذلك بقى، إنسانيّا، راسخا من فكر «اليسار»، رفض الاستغلال الاقتصادى والإقرار بمهمّة الدولة كمؤسّسة «راعية» تؤمّن الحماية الاجتماعيّة والخدمات لشعبها، وبقى راسخا من الفكر «الليبرالى» واجب الدولة أن تصون الحريّات الفرديّة والجماعيّة.
• • •
أمّا صعود الأيديولوجيّات «القوميّة ــ الإثنيّة» و«الدينيّة ــ المذهبيّة» فقد دفع هذه «القيم الإنسانيّة» إلى الهامش. هكذا يتمّ داخل كلّ بلد تغييب أهميّة الصراعات الاجتماعيّة والاقتصاديّة وحجب الحريّات الفرديّة والعامّة لفرض واقعٍ متخيَّل على مجتمعات هى أصلا متعدّدة الهويّات، وتتمّ بالتالى تنمية شروخات وصراعات أهليّة داخليّة عبثيّة. وتجرى تغذية التفرِقة بين مواطنى البلد حسب أصولهم وموروثاتهم، وبين هؤلاء المواطنين والعمّال الأجانب واللاجئين. بل غدا هذا التمييز أساسا لتبرير الاستغلال وقمع الحريّات.
وهذه الأيديولوجيّات الصاعدة تفتح المجال لصراعات عسكريّة وأخرى خافتة لفرض النفوذ بين الدول، بحجّة «حقّ» هذه «القوميّة ــ الإثنيّة» أو هذا الدين أو المذهب «التاريخى» فى أرضٍ بمعزلٍ عمّن يسكنها منذ قرونٍ عدّة. كما يحدث مع الحركة الصهيونيّة فى فلسطين وفى مناطق أخرى. وكذلك بحجج منع هذا المدّ المذهبى أو حماية هذه الأقليّة، كما كان الأمر فى زمن نخر الاستعمار للإمبراطوريّات القائمة تحت شعار «حماية الأقليّات». فما معنى أن تكون الصراعات الإقليميّة «سنيّة ــ شيعيّة» أو «هندوسيّة ــ إسلاميّة».. والأهم ما ستكون مآلات ذلك على المدى الطويل؟!
ومن الهامّ أيضا معرفة أنّ الهويّات «القوميّة» الجامعة التى ظهرت فى العصر الماضى، وفى طليعتها الهويّة «العربيّة» أو الأخرى «البوليفاريّة» الأمريكيّة اللاتينيّة تمّ وأدها، لأنّها حملت معانى تحرّر من الاستعمار وعدالة اجتماعيّة، داخل البلدان المعنيّة وفيما بينها. أمّا الهويّة «الأوروبيّة» التى ظهرت فى العصر التالى والتى أبعدت القارّة العجوز عن حروبها القاتلة وصنعت لشعوبها أملا بترسيخ أهدافٍ إنسانيّة، بالتوافق مع رغبات الحكومات القائمة أو بمواجهتها، قد نمت وترعرعت. لكنّها نبذت جزءا من «أوروبا» (تركيا وروسيا) وعادت، كما فى عصر الاستعمار، إلى اختلاف المعايير عبر تبنّى معيار داخلى يؤكّد على الحريّات والرعاية الاجتماعيّة، ومعيار خارجى يفرض النفوذ ويتواجه مع الآخرين.
• • •
الماضى مضى ولن يعود.. والماضى أكثر تعقيدا من الصورة النمطيّة التى تصنعها الأيديولوجيّات «القوميّة ــ الإثنيّة» و«الدينيّة ــ المذهبيّة». فكلّ البشر غدو ما هم عليه عبر مزيجٍ من التواصل والصراعات والغزوات. وجميع الأديان والمذاهب لها تاريخها المضطّرب حتّى فى لحظاتها الأولى.
والدول القائمة اليوم لها أيضا تاريخها المعقّد. لا معنى ضمنها اليوم للحديث عن «أغلبيّة» و«أقليّة»، وعن «طوائف» و«أقوام»، ولا لمحاولة تقسيمها على أسسٍ قديمة متخيّلة. بل المهمّ هو ما تقدّمه لكلّ سكّانها، لمواطنيها بالتساوى ولغير المواطنين من حيث صيانة حقوقهم الإنسانيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة. هذا وحده يُمكِن أن يكبح لعبة القوى الدولية النافذة فى تنمية مشاعر انتماء لدى فئات من السكّان بغية تمرير نفوذها، باسم حماية «أقليّات» أو تحقيق «حلم قومى» غير ناجز أو الدفاع عن دينٍ أو مذهب مضطهد.
إنّ عصر «ما بعد الأيديولوجيّات» ينتظر فى النهاية.. أيديولوجية جديدة. أيديولوجية ذات توجّهات مستقبليّة وليست «سلفيّة»، وإن بُنيَت على طوباويّة. أيديولوجية تستمدّ ممّا ترسّخ بالتجربة، إنسانيّا، أى رفض الاستغلال والحرص على دولة الرعاية وصون الحريات الفرديّة والعامّة، واستنباط مشاريع جامعة من التراث أبعد من الأطروحات القوميّة أو المذهبيّة الضيّقة.
وبالطبع ستواجه مثل هذه أيديولوجيّة مستقبليّة مقاومة شرسة. كما ستواجه محاولات استغلال، كما يتمّ اليوم من استغلال لتعابير «ثورة» و«ديمقراطيّة» من كلّ الأطراف التى هى الأكثر مناهضةً للتغيير والحريّات.
كان «الربيع العربى» قد شكّل ذات لحظة شيئا من هذا الأمل. أنّ شعوبا يُمكِن أن تتحرّك لتحقّق طموحها بمستقبلٍ أفضل. كلٌّ فى بلده ومثالٌ يُلهِمُ الشعوب الأخرى. إنّ قوى «الخريف ليست السُلطات القائمة وحدها، بل أيضا قوى خارجيّة تحرّكت بقوّة بحجّة دعم «الربيع» لتجعله أيضا «خريفا» يغرق فى صراعات أيديولوجيّة «الهويّات» الداخليّة والمصالح الدوليّة.