بين «وَهْمِ الدولتين» وَوَهْمِ «إسرائيلَ الكبرى»..
محمد عبدالشفيع عيسى
آخر تحديث:
الخميس 18 سبتمبر 2025 - 8:15 م
بتوقيت القاهرة
غريبٌ عجيبٌ ما يحدث هذه الأيام من طرف المتحدثين باسم حكومةِ الكيانِ الإسرائيلى، بالكلامِ وبالفعلِ كليهما.
ردّا على ما يُنادى به كثيرون على المستويين العربى والعالمى بتطبيق ما يُسمى (حلّ الدولتين): دولة فلسطينية إلى جانب تلك الإسرائيلية، فإنّ من المتحدثين الإسرائيليين مَن يقول إنما هو «وَهْمُ الدولتين». وفى نفسِ الوقت يقومون باحتلالِ غزةَ (أو إعادةِ احتلالِها)، وليس هذا فقط، بل بدأوا بالقول بما يُسمّى ضمّ الضفة الغربية من نهرِ الأردن، الفلسطينيةِ الخالصة، إلى جانب العمل الفعلى من أجل ذلك الضمّ بدءًا من استخدام آلةِ العنفِ المجنونة ضدّ أعمالِ المقاومة أو بوادرها، كما فى جنين ونابلس وغيرهما.
وعلى سبيل «الحربِ النفسية»، يقوم بعضُ كبارِ المتحدثين باسم إسرائيل بجمعِ ما يحدثونه فى غزة مع ما يحدثونه وما سوف يحدثونه فى «الضفة الغربية» ليعيدوا القولَ الأسطورى التوراتى أو التلمودى القديمَ حول ما يسمونه (إسرائيل الكبرى)..! تلكَ التى تضمُّ، فى زعمِهم، فلسطينَ التاريخيةَ ومناطقَ متفرقةً من الجوار العربى كلِّه بما فيه مصرُ وشبهُ الجزيرةِ العربية!!
هكذا إذن تتجاورُ روايتان إسرائيليّتان غريبتانِ عجيبتانِ: إسرائيلُ الكبرى تلك، جنبًا إلى جنبِ نفى إمكانيةِ إقامةِ «دولةٍ فلسطينية»..! فما الخبر..؟
• • •
وفى البداية، كيفَ تَسَنّى تحويلُ «حلمِ تيودور هرتزل» بإقامةِ دولةٍ يهوديةٍ، الذى عبّر عنه فى «المؤتمرِ اليهودى الأول» المعقودِ فى مدينةِ بازل السويسرية بين 29 و31 أغسطس 1897 — تحويله إلى «وعدٍ بريطانى» رسمى: (وعدُ بلفور عام 1917). ونذكّرُ هنا بما قاله جمال عبد الناصر فى رسالتِه إلى الرئيسِ الأمريكى الشابِّ جون كينيدى فى 20 فبراير 1961 فى بداياتِ ولايتِه: (لقد أعطى مَن لا يملكُ وعدًا لمَن لا يستحقّ، واستطاع مَن لا يملكُ ومَن لا يستحقّ أن يسلبا صاحبَ الحقِّ الأصيلِ حقّه..). هكذا جرى تحويلُ «الحلم» إلى «وعد»، حتى تحول ذلك أخيرًا إلى كيانٍ سياسى آخذٍ فى التوسع، ووصلَ الأمرُ بأصحابِه من التبجّح - بعد عدوانِ واحتلالاتِ يونيو 1967 - إلى توهّمِ تحويلِ الحلمِ والوعدِ والكيانِ إلى إمبراطوريةٍ صهيونيةٍ كاملةٍ، لا يتورّعون عن تسمّيتها «إسرائيلَ الكبرى»، ويعتبرونها مسئولًا عندَهم كبيرًا (رسالةٌ تاريخيةٌ وروحيةٌ..!) يحملها على كاهله. ذلك ينطبقُ عليه القولُ الشائعُ باللهجةِ العربيةِ فى مصر: (اللى اختشوا ماتوا..)! وحقًّا، كما يذكر قولٌ «شبهُ عامّى» آخر، فى صيغةِ سؤالٍ استنكارى: (أين حُمرةُ الخجل..؟).
هذا كلُّه، بينما تحوّلتْ موازينُ القوى الدوليةِ والإقليميةِ الحاليةُ دونَ تقدّمِ الفلسطينى ليأخذَ حقّه «التاريخى الأصيلَ»، دونَ وَجَلٍ.. فها هى «القوةُ العظمىُ الوحيدة» فى الوقتِ الراهن تقدمُ المالَ والسلاحَ - وهى «الإمبرياليةُ الكبرى» - إلى «إمبرياليةٍ صغرى» يقالُ لها «شرقُ أوسطية»، فتمنعُ صاحبَ الحقِّ من استردادِ حقّهِ المسلوب.. بل وتسعى إلى ما هو أكثرُ من ذلك فيما نشاهده ونراهُ بعينِ الرأى كلّ يومٍ هنا وهناك..! ويتمُّ ذلك تحت غطاءٍ من «الخداعِ الاستراتيجى»، أو التضليلِ بأدواتِ الدعاية، إلى جانبِ (الفعلِ الحَى)، بدعمٍ من «الإمبراطوريةِ الأمريكيةِ المعسكرة!».
كلُّ ذلك، وأكادُ أزعمُ أن «التاريخَ اليهودى» الذى يُشارُ إليه بالبنانِ من طرفِ البعض - إن صحّ التعبير - لم يكن مسرحُهُ التاريخى الأصلى فى فلسطينَ ولكن فى «اليمن»..! وقد كدتُ أميلُ إلى ذلك ميلا، وبخاصةٍ فى ضوءِ مستكشفاتٍ وحفرياتِ الآثارِ الشاخصةِ فى اليمن؛ بينما لا يتوفّر ما يشيرُ البتّة إلى وجودٍ يهودى سابقٍ فى فلسطين. ولقد حاول «وزيرُ الحربِ الإسرائيلى» الأسبق- فى زمنِ عدوانِ 1967- موشيه ديان، حينَ عملَ على حفر الآثار فى فلسطين بعد 1967، أن يجدَ شيئًا - أى شىء - يدلّ على وجودٍ يهودى سابقٍ فى فلسطين، فلم يجد..! بينما اليمنُ تذخرُ، وكانت تذخرُ دائمًا، بالشواهد الآثاريةِ الدالةِ على الوجود اليهودى، برغم النهب المنظّم لآثاره العظيمة طوال حقب من الزمان، مقابل الترويج لوَهْم زائل عن (إسرائيلَ الكبرى)..! وما يزالُ (حسنو النية) - إن افترضنا ذلك - يتكلّمون عن «حلِّ الدولتين»: فلسطينيةٍ وإسرائيليةٍ، بينما يقوم أنصارُ «الإمبراطورية الوهمية» بنزعِ ما يدلُّ على تاريخيةِ فلسطينَ بالقمعِ إلى حدودِ الاحتلال، وبالعنفِ إلى حدِّ ممارسةِ «حربِ الإبادة».
• • •
وينطوى حديثُ «حلّ الدولتين» على اعترافٍ بالكيانِ الإسرائيلى، بمعنى ما، ولكن إلى أى حدودٍ لا نعرف؛ بينما لا يضمنُ اعترافًا بدولةٍ فلسطينيةٍ حقيقيةٍ من حيثِ الحدودِ الجغرافيةِ، ومن حيث نطاقِ الاستقلاليةِ الفعليةِ اقتصاديًا وعسكريًا وغير ذلك..! فأى حلٍّ للدولتين إذن، إن لم يكن، كما يذكرُ البعضُ، «وَهْمَ الدولتين؟».
فهل يتجاورُ «وَهْمُ الدولتين» مع روايةِ «إسرائيلَ الكبرى» فى تحالُفٍ فكرى وسياسى من أجلِ حجبِ الحقِّ الفلسطينى على كلِّ حال؟
ومع ذلك، يعترفُ جُلُّ الرسميينَ العربِ بكيانٍ إسرائيلى، ولو فى حدودِ عامِ 1967، فهل آنَ أوانُ اعترافِ (إسرائيل) بدولةٍ فلسطينيةٍ مستقلةٍ حقًا..؟
وهل آنَ لليمينِ الصهيونى المتطرِّفِ أن يتخلّى عن «وَهْمِ إسرائيلَ الكبرى»، إن كان ذلك ممكنًا، ليسهم فى تحويلِ ما يعتبره «وَهْمَ الدولتين» إلى حلٍّ فعلى يضمنُ لدولةِ فلسطينَ المستقلةِ حياةً حقيقيةً، ولو من خلال إعادةِ تفعيلِ «قرارِ التقسيم» الصادرِ عن «الجمعيةِ العامةِ للأممِ المتحدة» فى 29 نوفمبر 1947، من خلال إقامةِ دولتين: عربية ويهودية..؟
وهل ما زالَ ذلك ممكنًا أصلًا..؟
ولكن العكسَ هو ما يجرى على قدمٍ وساقٍ حقًّا. إذ فى سبيلِ ذلك (الوَهْم المتوهّم) - إن صحّ التعبير - تقوم حكومةُ الكيانِ الإسرائيلى بالعملِ على التمهيدِ لتحقيقِ (الروايةِ الوهميةِ لإسرائيلَ الكبرى) مقابلَ محاولةِ نزعِ الشرعيةِ السياسيةِ والمشروعيةِ القانونيةِ عما يُسمّى بالسلطةِ الوطنيةِ الفلسطينيةِ ومن يمثّلها رسميًا؛ هذا من جهة. ومن جهةٍ أخرى، محاولةُ شطرِ «الضفةِ الغربية» إلى شطرين لا يلتقيان، من خلال المشروعِ الصهيونى الاستيطانى المسمّى عندهم E1، مع محاولةِ فصلِ القدسِ الشرقيةِ عن «الضفة» تمامًا، مع العملِ أيضًا على تهجيرِ بدوِ النقب، كحلمٍ صهيونى قديم.
غيرَ أنَّ التاريخَ يعلّمنا أن «الوهمَ الكبير» - كَوَهْمِ (إسرائيلَ الكبرى!) - إنما يوردُ أصحابه موارد التهلكةِ المؤكّدةِ، ولو بعد حين.
ولننتظر حكمَ التاريخِ، وهو قريب..!