حولنا وفى وسطنا جيل كامل من الشباب لم يعاصر العولمة فى قمتها وتألقها. جيل لا يعرف أنه ثمرة تجلياتها وهى فى أزهى مراحلها. هو مدين لها بكل ما يملك من تجارب وما تلمسه أصابعه من حروف، وربما بما ينطق به لسانه من حروف وكلمات غريبة، وبما يرتديه بناته وصبيانه فى الصين وروسيا ومصر وتونس والمملكة المتحدة والهند والأرجنتين. هؤلاء جميعا توحدوا فى ارتداء ملبوسات الجينز كما توحدوا فى الإنصات إلى، أو التمايل مع، ألحان وأغان بعينها. كلهم رضعوا مع حليب أمهاتهم سندوتشات الماكدونالدز. كلهم أقبلوا على اقتناء هواتف ذكية وحواسيب بالغة الحساسية والابتكار الذاتى، كلهم عاشوا أو انتقلوا للعيش حياة كاملة فى عوالم خيالية. يخرجون منها حينا ليطلوا على عالم آخر يعيش فيه أهاليهم ورؤساؤهم وحكامهم. هؤلاء لا يفتأون كلما احتك الشباب بهم يحاسبونهم على العيش مكتفين ذاتيا، ينأون بأنفسهم وإن اجتمعوا وذووهم تحت سقف واحد. هؤلاء تسببوا فى ارتباك عظيم داخل مؤسسات الأمن وإن ابتعدوا عنها أراضى ومحيطات، مؤسسات لا ترتاح لشباب يفكر فى صمت ويتمرد ساكنا وينفجر غاضبا فى لحظة.
***
فى سنوات قليلة وقعت تطورات عديدة بعضها اختص بالغرب وأكثرها لم يترك دولة أو ثقافة أو جماعة إلا ومسها بقليل أو كثير من الصدمات. دفعنى تدفق هذه التطورات وتلاحق تداعياتها إلى البحث عن رابط أو خيط يجمعها. كانت مهمة صعبة. كيف يمكن أن يتخيل إنسان أن علاقة ما قامت أو تقوم بين موجة من الحركات القومية اليمينية المتطرفة تهب فتهز أسس قصور الحكم فى أوروبا ونظريات علم السياسة وبين رغبة محمومة لدى حكام الصين لإنعاش فكرة طريق الحرير شبه الأسطورى ليصبح حزاما أوراسيا يحتوى فى داخله بلادا فى أقصى الشرق الآسيوى وفى وسط آسيا وفى أواسط أوروبا وأقصى غربها. وليصبح أيضا وفى الوقت نفسه طريقا يمر فى سلاسة وأمن وثقة عبر بلاد فى جنوب آسيا والخليج مارا بشرق أفريقيا ومنتهيا مرة أخرى بجنوب أوروبا. ما العلاقة بين هذا التطور وذاك التطور وبينهما معا وبين الحملة العدائية ضد النخب فى عديد الدول وبينها جميعا وبين الفوز الصارخ والصادم للمرشح دونالد ترامب ليصير رئيسا لأمريكا.
***
المؤكد فعليا، وليس تحليليا أو نتيجة اجتهاد شخصى، أن مرحلة العولمة الرأسمالية التى استحقت بجدارة لقب العولمة على النمط الأمريكى، هذه المرحلة خلفت أو أنتجت حالة فريدة من اللامساواة فى الدخول لم يعرفها النظام الرأسمالى منذ نهاية عقد العشرينيات من القرن الماضى. لم يدر بخلد أى باحث فى شئون العولمة وتطوراتها أن تنتج عنها فجوة لا مساواة على هذه الدرجة من الاتساع. دار النقاش وقتها، على ما أذكر، حول ضمانات رسختها العولمة فى شكل ما سمى بعولمة الحقوق والقوانين والقضاء، أو كان الظن أن العولمة سوف ترسخها. العولمة ربما رفعت شعارات عن ضمانات ولكنها فى الحقيقة لم ترسخها ممارسات ثابتة تتناقلها فى المستقبل كتب التاريخ كما تناقلت مبادئ وإنجازات القانون الرومانى والديموقراطية الأثينية.
***
تأثرت شعوب بلادنا بالعولمة كغيرها من شعوب العالم. ثلاثون عاما أو أكثر تسمع هذه الشعوب عن دول تقرر أن تندمج اقتصاديا فتنمو اقتصاداتها وتترعرع. تسمع عن حدود تزال وأناس تتحرك بحرية بين دولة وأخرى، يتاجرون فى حرية ويتناقشون فى حرية ويتعلمون فى حرية ويتقدمون. هنا فى هذه البلاد العربية لا شيء كان يتحرك. لا محاولات أو جهود اندماج بين دول الإقليم، لا خطط تنمية، لا نمو ولا تعليم جيدا، وحكومات لا تنجز. كيف عرفت الشعوب أن حكومات أخرى تنجز وحكوماتنا لم تنجز؟ إنها العولمة، عولمة الاتصالات وعولمة التكنولوجيا وعولمة المواصلات. كنا طرفا فيها دون إذن بالانضمام أو نية صادقة فى النهوض. وصلت أيضا عولمة الحقوق والحياة الكريمة وسلطة الدساتير والقوانين وجمدت فور وصولها. لكن ما تسرب منها فور وصولها كان كافيا لتتحرك الجماهير وتطالب بالحقوق وحكم القانون والعدالة والمساواة، مطالب إذا جاءت مجتمعة فهى الثورة. بالفعل ثارت شعوب فى واحدة من أهم ثورات التاريخ، كانت أول ثورة تنشب استجابة لتطورات تاريخية حدثت وتحدث خارج حدود بلادها، ثورة دفعت إليها عولمة تصدت لحكومات منغلقة ومنعزلة وغير مستعدة لإحداث التغيير المناسب للتفاعل مع هذا التحول المهم فى مسيرة الإنسانية. شعوبنا تدفع الآن ثمن انكسار عولمة لم تتح لنا الفرصة كاملة للاستفادة منها وقت تألقها.
***
جاء وقت، ليس بعيدا، انتعش الأمل فى أن تفرض العولمة على أولى الأمر فى كل قطاعات السلطة والإدارة حسن الخيار. كان شعارنا الأكفأ هو خيارنا. سعينا جماعات وشعوبا وأفرادا لنحصل على الأحسن والأعلى جودة. رفضنا قراءة ما يكتبه المهووسون والانتهازيون وأدعياء المعرفة، امتنعنا عن طاعة فاسد أو جاهل أو أحمق. كنا فى حقيقة الأمر نحلم بمجتمع فاضل. لم ندرك وقتها أن قوى بعينها تقف بالمرصاد لممارسات أرست قواعدها العولمة. فجأة وفى عامين على الأكثر كانت أوروبا تموج بحركات وتيارات تعلن كرهها لجميع خيارات العولمة، وفى صدارتها خيار الأكفأ والأحسن. دخلوا الانتخابات وحققوا نتائج مبهرة، أهمها وقف مسيرة العولمة وإقامة حكومات شعبوية. الشعوب فى الشارع أو على صناديق الانتخاب تأتى بحكام يكرهون المتميزين والمفكرين والخبراء والمثقفين عامة. أتت بدونالد ترامب وما زالت تأتى بأمثاله، بالأمس فقط أتت بشاب فى الثلاثين ليقود النمسا على الطريق نحو إزالة آثار العولمة ومنها العلاقة بالاتحاد الأوروبى وقوانين الهجرة.
***
كان حلما واندثر. كانت الحدود المفتوحة أمام البشر ليتنقلوا فى حرية ويستقروا فى أمان حلم الملايين منذ نشأة المجتمعات الإنسانية. كان حلما من أحلام العولمة قبل أن ينقلب عليه خصومها من الشعبويين. الناس تهاجر والعولمة لم تخترع للناس هذا الحق وإنما كرسته عنصرا حيويا لأمن البلاد ونموها. ترامب يمنع الهجرة بينما الشركات الأمريكية تعلن أن الاقتصاد الأمريكى لن يتعافى إلا إذا حصل على عقول جديدة من أوروبا. اقتصادات أخرى فى دول شاخ سكانها لن تتوقف عن الحاجة إلى أيدٍ عاملة من أفريقيا والعالم العربى. هذه الأخيرة أى دول أفريقيا والعالم العربى، لن تقوى على منع شعوبها من ممارسة حقها فى الهجرة حتى وإن استمرت فى الزيادة أرقام المواطنين الغرقى. أتصور أحيانا أن العولمة بدت فى لحظة من لحظاتها تعويضا رمزيا لشعوب أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية عن سنوات استعمار أوروبى بغيض. بدت تشجع على الهجرة وحرية التجارة وانتقال العمالة ورفعت شعار عالمية الحقوق، لا تمييز بين أعراق وطوائف وأديان وأجناس، شجعت على المشاركة فى الحكم وناصرت التعددية والديموقراطية. كل هذا يتعرض الآن لحملة شرسة.
***
العولمة فجرت أزمة الهويات وأعادت إلى الصدارة مبدأ الحق فى تقرير المصير. هى سبب غير مباشر لانتعاش مطالب الانفصال وخطر الانفراط وتقسيم الدول. كانت بدون شك وراء صعود الصين وكان يمكن أن تكون وراء نهضة طال انتظارها فى العالم العربى وأحبطتها الحملة الضارية ضد ثورة الربيع، باعتبارها إحدى ثمار العولمة، التى هى أيضا ربما تتحمل جانبا من مسئولية انحسار النفوذ الأمريكى، وتقف مع متغيرات أخرى وراء الظاهرة البوتينية فى السياسة الروسية.
***
سيكون مثيرا الاستمرار فى متابعة تفاصيل الحرب الناشبة ضد العولمة. سيكون مثيرا أيضا الاستمرار فى متابعة صمود أو انهيار إنجازاتها ورموزها.