كاسيوس لم يكن على حق
سيد محمود
آخر تحديث:
الثلاثاء 18 أكتوبر 2022 - 7:40 م
بتوقيت القاهرة
لا أكف عن تذكر الدكتور شاكر عبدالحميد وزير الثقافة السابق بكل خير، فقد كان أخا كريما واسع العطاء وغالبا ما تأتى سيرته بين الأصدقاء مصحوبة بابتسامات وطرائف لا تعد ولا تحصى وهناك اجماع بين من عرفوه على صفتين رئيستين كانتا فيه، الصفة الأولى العطاء والصفة الثانية هى العمل بدأب لا ينقطع وقد تعلم هذه الصفة كما قال لى من معلمه وأستاذه الدكتور مصطفى سويف الذى كان حريصا على ضبط الوقت ووضع الساعة أمامه فى كل لقاء لكى لا ينفلت منه الزمام.
وخلال أيامه الأخيرة انشغل الدكتور شاكر بقضية اعتبرها أولوية وطنية وهى الصناعات الابداعية وكيفية النظر للإنتاج الثقافى بوصفه مصدرا للاستثمار وليس مجالا لتقديم الخدمة فقط وكثيرا ما ردد أمامنا نحن رفاق جلساته الممتعة عبارات من مسرحية يوليوس قيصر لوليم شكسبير وبالذات المشهد الثانى من الفصل الاول حيث انتقد قيصر غريمه وألد أعدائه كاسيوس قائلا: «لانطونيو» عنه «انه لا يحب المسرحيات / كما تحبها انت / ولا يسمع الموسيقى كما انه نادرا ما يبتسم).
وهكذا آمن الراحل بأن الثقافة ليست ترفا وان رعاية الدولة للفنون والآداب هى جزء من استثماراتها ومعيار من معايير تقدمها وبالتالى ليست وظيفة المسئول عن ادارة العمل الثقافى التعلل بضعف الميزانيات أو العمل على تقليصها وانما السعى وراء تنمية موارده وتكامل مصادره.
ظل شاكر يبحث فى الموضوع ومتابعة أحدث ما نشر حوله عالميا وترجمته ليتواصل القارئ المهموم بهذا الجانب مع كل جديد.
وقبل وفاته مباشرة قدم لسلسلة عالم المعرفة ترجمته لكتاب «الثروة الإبداعية للأمم هل تستطيع الفنون أن تدفع التنمية إلى الأمام» تأليف باتريك كابدا وقد صدر الكتاب فى السلسلة العريقة قبل نحو شهر.
ومؤلف الكتاب هو عازف موسيقى معروف لكنه أيضا أحد خبراء البنك الدولى فى التنمية لذلك فإن ما كتبه يمثل اضافة مهمة لأنه يجمع بين ادراك لقيمة الفن ومعرفة واسعة بأمور التنمية وتحديات التمويل الثقافى وبالتالى عمل على تطوير نظرة آدم سميث الكلاسيكية التى قدمها فى كتابه «ثروة الأمم» وانتصر فيها للحلول الرأسمالية ورفض تماما أى شكل من أشكال تدخل الدولة فى السوق طالبا تركه لقوى العرض والطلب.
يعلمنا الكتاب كما أشار امارتيا سين فى تقديمه الموجز كيف يمكن للفنون أن تعمل على إثراء اقتصاديات العالم حتى فى تلك المناطق المنكوبة أو المبتلاة بالفقر المادى وذلك من خلال إيجاد سلع صالحة للتبادل المادى وينبه الكتاب القراء إلى وسائل احداث التكامل بين ما هو اقتصادى وما هو ثقافى / فنى ويشير إلى تجارب ناجحة لتطوير أفق السياحة الثقافية فى العالم، وكذلك التحديات التى أوجدها الفن الرقمى وسبل علاج الفجوات المعرفية القائمة وأشكال التعامل مع تحديات حماية حقوق الملكية الفكرية التى تظهر قوة هذه الفجوة.
وأظن أن الكتاب صدر فى توقيت مهم حيث تواجه المؤسسات الثقافية المستقلة فى العالم تحديات عديدة بعد تقلص أو تراجع فرص التمويل مع توجه غالبية المخصصات المالية خلال السنوات الاربع الأخيرة نحو الرعاية الصحية بسبب كورونا ثم جاءت الحرب الأوكرانية الروسية لتضع تحديات اضافية تخص الاتجاه نحو تمويل مؤسسات رعاية اللاجئين فى أوروبا وبالتالى فإن المتوقع هو تراجع التمويل الثقافى فى المنطقة العربية إلى حد كبير ومن ثم لابد من البحث عن حلول ملهمة موجودة فى هذا الكتاب الذى يعد وصفة كاملة للعلاج تنظر فى مكاسب الاستثمار الثقافى ومؤشرات جديدة مقترحة للتبادلات الثقافية فى عالم اليوم بل الإلحاح كذلك على الدور الذى تلعبه الفنون فى مجال التعافى أو التطهير من الألم الناتج عن الهجرة والحرب وكافة صور الاقتلاع.
وكعادة الدكتور شاكر عبدالحميد فقد حرص تماما على وضع ملحقا بالتعريفات والمصلطحات حيث لا تزال تعبيرات (الاقتصاد الثقافى والابداعى) غير متداولة ومن ثم فهو أيضا يقدم اضافة اصطلاحية مهمة ويشير إلى الخيارات المتاحة حول موضوع التنمية الثقافية مؤمنا بأن الخيال هو المستقبل وأن واحدة من أبرز مهام الفنون هى الكشف عن الثروات الابداعية للأمم لنعرف أن كاسيوس بطل شكسبير لم يكن على حق.