موهبة الاندهاش
نيفين مسعد
آخر تحديث:
الخميس 18 نوفمبر 2021 - 10:00 م
بتوقيت القاهرة
لعل أقصر وأجمل جملة قيلت في وصف الفنانة التشكيلية الكبيرة جاذبية سرّي التي غادرت عالمنا قبل أيام- هي تلك الجملة التي وصفها بها أحد أبناء كارها من فناني إيطاليا عندما قال إنها تملك "موهبة الاندهاش". بعض الجمل يحدث رجّة عقلية لدى المتلقي وجملة "موهبة الاندهاش" من هذا النوع. الفنان الإيطالي كارميني سينسيكالكو كان يصف مرحلة البدايات في رحلة جاذبية سرّي مع الريشة والورق والألوان، عندما تفاجأت بقدرتها على أن تحوّل التضاد بين المادي وغير المادي أو بين قفص الجسد وانطلاقة الروح إلى لوحة فنية بها طفلة ترسل طائرتها الورقية إلى عنان السماء. لكن هل الاندهاش موهبة؟ وهل هو يلازم مرحلة واحدة من مراحل العمر؟ كل فن هو موهبة وكل موهبة تحتاج إلى محرّض على الإبداع، فإن توقّف التحريض جفّ الخيال وتوقفت القدرة على إنتاج الجمال، وقد ظلت لوحات جاذبية سرّي حتى أواخر عمرها شاهدة على أن بيننا امرأة تندهش بلا مدى وتعتصر من الإبداع أصفاه.
•••
تنضم جاذبية سرّي إلى قافلة الكبار الذين لم يتشكّل فكرهم واتجاههم السياسي وفق انتمائهم الطبقي، هي ابنة الأسرة الأرستقراطية التي انتقلت بعد الوفاة المبكّرة للأب من أحد معاقل الطبقة الغنية في منيل الروضة إلى أحد معاقل الطبقة الغنية في الحلمية حيث الليالي التي رسم لنا مباهجها أسامة أنور عكاشة. كانت تعتلى سطح بيت الحلمية وتمد بصرها في فضول على مدد الشوف فترى البيوت الشعبية المتراصة والمتساندة علوى بعضها البعض وكان هذا بمثابة إنذار مبكّر بخصوص الدور الكبير الذي ستلعبه البيوت في مسيرتها الإبداعية. فلقد أخذَت علاقة جاذبية تتطور بهذه البيوت في الشكل والمضمون، وهذا التطور حدث استجابةً لحالتها الشعورية ونضجها الفني هذا بالتأكيد، لكنه جاء كذلك متأثرًا بالمراحل التي يمر بها التاريخ السياسي للوطن. تارة تكون البيوت جدرانًا حانية تقفل أبوابها على أسرار وأُسر كافية خيرها شرها تترك ما لله لله وما لقيصر لقيصر ولا شأن لها بمهلكات السياسة، وتارة أخرى تنصهر البيوت مع أجساد ساكنيها تحت وطأة آلة الحرب والتدمير أثناء النكسة في صدق يكاد يُسمَع معه صوت محمد حمام وهو يغني: يا بيوت السويس يا بيوت مدينتي أستشهد تحتك وتعيشي إنتي، وتارة ثالثة تنفتح البيوت على براح الصحراء حيث الأفق ممتد والأمل يبلغ حد الفضاء بعد أن تعبر مصر من الهزيمة إلى النصر. إنها أرستقراطية بمزاج يساري، سافرَت وعاشت ودرسَت في عواصم غربية كثيرة، لكنها أبدعَت في رسم الحارة والمراجيح ولعبة الحجلة والطيارات الورقية وكل تفاصيل الإنسان البسيط. تُلفت انتباهها امرأة بسيطة تنشر الغسيل في بلكونتها كما سبق أن لفتت نفس اللقطة انتباه فنانين كبار على شاكلة الفنان حسين بيكار فرسمتها هي كما رسمها هو في لوحتين صارتا من لوحاتهما المشهورة. يسير شخوص جاذبية سرّي في سلاسل بشرية ومجاميع كبيرة كما هو الحال في الأحياء الشعبية حيث يختلط الكل بالكل وتصبح ممارسة الخصوصية فعلًا ضد الطبيعة. هذه التوليفة بين النشأة الأرستقراطية والفكر اليساري اشتركت فيها جاذبية سرّي مع أعلام بارزة في الفن التشكيلي مثل إنچي أفلاطون، وفي الاقتصاد مثل دكتور اسماعيل صبري عبد الله، وفي السياسة مثل محمد سيد أحمد، وعندما كانت مصر تتلمس طريقها بعيدًا عن مدارات النفوذ الخارجي، أفردت جاذبية سرّي مساحة في إبداعها للاحتفاء بمرور عام على انعقاد مؤتمر باندونج، هذا المؤتمر الذي مثّل النواة الأولى لتأسيس حركة عدم الانحياز.
•••
شاءت الأقدار أن تكون اللحظة التي أبصرت فيها جاذبية سرّي النور عام ١٩٢٥ هي لحظة عبقرية بامتياز فقد كان فيها شيء من كل شيء. إنها اللحظة التي بدأ فيها تشكّل مفهوم الأمة المصرية وتبلوّر معالم الحركة الوطنية تحت قيادة حزب الوفد، وهي اللحظة التي شهدت حضورًا نسائيا واضحًا في المشهد المصري العام وتوالَى فتح الأبواب المغلقة أمام المرأة في السياسة كما في مجال الفن والثقافة، ومن الطبيعي أن يكون هذا المناخ ملهمًا لكل من يمتلك موهبة الاندهاش حتى يُبدع. لكن في الموضوع أيضًا يوجد شق له علاقة بالچينات، فليس من قبيل المصادفة أن تكون جاذبية سرّي مع أختيها محبّات للفن التشكيلي ودارسات له في أطر أكاديمية مختلفة، فلعلك غير واجدٍ أحدًا من أسرة جاذبية سواء من ناحية الأب أو من ناحية الأم إلا محبًا للرسم والتصوير، وهكذا اعتادت على ملمس الفرشاة وتمازُج الألوان وتآلفت تمامًا مع شطحات الخيال. لكن جاذبية سرّي اختارت من البداية أن يكون لها طريقها الخاص في التعبير عن دهشتها، ليس فقط من حيث الاتجاه السياسي بالانحياز للبسطاء من الناس، لكن كذلك من حيث التوأمة بين المرأة والحرية في لوحاتها. فالمرأة عند جاذبية سري تتعلم وتعمل وتحاول أن تنطلق وتهّز التقاليد التي تكبّلها هزّا، وفي إحدى لوحاتها تبدو ثلة من النساء وهن يحاولن إنزال مُبَرقعات من داخل الهودج المحمول على ظهر جمل، وفي ركن الصورة رجل يترّبص ويمنع ويؤذي، فلقد كانت فنانتنا الكبيرة تعلم تمامًا أن معركة تحرير المرأة ليست معركة سهلة لكن النصر فيها من نصيب أصحاب النَفَس الطويل، لذلك فلتذهب فرشاة جاذبية سرّي أينما تذهب لكنها ستتوقف بين الحين والآخر عند المرأة فهي واحدة من أوضح قضاياها. ومع ذلك فإن وصفها بأنها فنانة المرأة أو رسّامة المرأة يحبسها داخل قفص ضيق لا يليق أبدًا بإبداعها. وهي فوق ما سبق تختار ألوانًا تشبهها، وهذه الألوان ليست صريحة ومبهجة كألوان الرائع حلمي التوني، لكن ألوانها ترابية هادئة إلا فيما ندر، فيها حضور خاص للأصفر والبنّي والبرتقالي مع توليفة أخرى من نفس العائلة، وهي قادرة على استنطاق الألوان كل المعانى التي تريدها.