التحليل الديموغرافي للنظام الدولي

بشير عبد الفتاح
بشير عبد الفتاح

آخر تحديث: الإثنين 18 نوفمبر 2024 - 6:35 م بتوقيت القاهرة

يعتلى الباحث الفرنسى، أشيل غيار، قصب السبق، فى التأصيل لمصطلح «الديموغرافيا»، باعتباره علم الدراسات الرياضية للسكان؛ وذلك فى كتاب أصدره عام 1855، بعنوان: «مبادئ الإحصاء البشرى، أو الديموغرافية المقارنة». أما «الديموغرافيا السياسية»، التى نظر لها عالم الاجتماع السياسى، جاك غولدستون، لتغدو علما مستقلا مطلع ثمانينيات القرن الماضى، فتعنى بعلاقة التأثير المُتبادلة بين القضايا السكّانية، على شاكلة: حجم السكان، البنية العمرية، الخصوبة، والهجرة؛ والمسائل ذات الصلة بالدولة.

يرى، مالتوس، وماركس، أنّ السكّان يشكِّلون، إلى جانب الأرض ورأس المال، أحد المتغيِّرات المركزية الثلاث فى أى عمل، أو تحليل للمسائل الاقتصادية -الاجتماعية. كما يعد المتغير الديموغرافى، أحد المحددات الرئيسة لقوة الدولة الشاملة، تطورها ومكانتها الإقليمية والدولية. حيث ينذر تراجع النمو السكانى بفقدانها مصادر قوتها على المستويين العسكرى والاقتصادى. ففى مؤلفه المعنون: «الديموغرافيا السياسية.. قوانين جيوسياسية السكان»، الذى أصدره عام 2007، يبرز جيرار فرانسوا دومون مدى الترابط بين النشاط الديموغرافى الطبيعى للدولة، ووزنها الجيوسياسى. إذ يشير إلى أن مؤشرات من قبيل: عدد السكان، تركيبتهم العمرية (نسبة الشيوخ إلى الشباب)، وتجانسهم العرقى (نسبة المهاجرين إلى المواطنين)، قد تسطر القصة الأهم بشأن مستقبل النظام العالمى.

•  •  •

يتمظهر التحول الديموغرافى فى انخفاض معدلات الخصوبة وزيادة معدلات الوفيات عن معدلات المواليد؛ بما يفضى إلى نمو سكانى منخفض أو صفرى، وربما سلبى. الأمر الذى يجعل المجتمع أقل شبابًا، وأكثر ميلًا للتعمُر أو التهرُم. بمعنى ارتفاع معدلات الإعالة العمرية الكبرى للسكان بعمر 65 عامًا فأكثر، من لدن الذين فى سن العمل. وهكذا، أضحت التحولات الديموغرافية محددا جوهريا فى المكانة والنفوذ الدوليين.

إبان القرن الثانى الميلادى، كانت  الإمبراطورية الرومانية تمثل دولة ما قبل حديثة نموذجية ومستقرة، تسيطر على فضاء شاسع ومتنوع من الأرض. إذ بلغ عدد سكانها حينئذ، 75 مليون نسمة، بفضل الازدهار، سن الزواج المنخفض، ونسبة الولادات العالية فى إطار الزواج، وقد بلغ عدد سكان مدينة روما وحدها مليون نسمة. حتى إن إدوارد جيبون مؤرخ القرن الثامن عشر، اعتبر ذلك العصر «الأكثر سعادة» فى التاريخ البشرى. بيد أن تراجع أعداد سكان الإمبراطورية الأعظم تاريخيا، بعد خمسة قرون، جراء الحروب المتوالية، الأمراض، الفيروسات، والأوبئة الفتاكة، تضافر مع عوامل أخرى، لإسقاطها. فيما ارتآه المؤرخ، إيان موريس، أكبر كارثة جيوسياسية عرفها التاريخ الإنسانى.

خلال القرن التاسع عشر استطاعت بريطانيا تعزيز وزنها الجيوسياسى كقوة مهيمنة عالميا، بفضل نمو سكانى هائل ارتكن على انخفاض أعداد الوفيات. ولم تكن لتغدو مهدا للثورة الصناعية من دون «انفجار سكانى» مهد لتلك الثورة. فخلافا لدولة دلفت إلى عصر الصناعة مبكرا لكنها عانت عوزا سكانيا، مثل بلجيكا؛ مكن تزايد السكان الأنجلوساكسون، بريطانيا من التوسع والهيمنة على العالم الجديد، ثم على أستراليا؛ لتمسى إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس. أما إسبانيا والبرتغال فلم يتسن لهما بسط سيطرتهما المطلقة على أمريكا اللاتينية، بسبب فقرهما الديموجرافى، مقارنة مع الدول اللتين احتلتاهما هناك.

قبل الحرب العالمية الأولى، دأبت غالبية الدول الغربية على مراقبة الصعود السكانى لبعضها البعض. فلطالما كانت زيادة المواليد فى ألمانيا، على وجه التحديد، مبعث قلق بالغ لفرنسا وبريطانيا. ولما كانت القوة النيرانية متقاربة إلى حد بعيد بين المعسكرين، تمخض المدد الأمريكى الكثيف من المقاتلين عن حسم الحرب. وفى إسرائيل، حيث يزداد الاعتماد على المرتزقة؛ أفضت عوامل من قبيل: العجز الديموغرافى الناجم عن تراجع الهجرة الوافدة، زيادة الهجرة العكسية، تنامى التهرب من الخدمة العسكرية، تعذر تجنيد الحريديم، تقليص مدة خدمة الاحتياط بعد الانخفاض المخيف فى أعداد المتقدمين للخدمة إلى قيام قسمى التكنولوجيا والروبوتات بنقل العمليات البشرية عالية الخطورة إلى منصات تكنولوجية، بقصد تقليل الخسائر البشرية مع صعوبة إحلال المفقودين، من القتلى والمصابين.

•  •  •

ما كانت الولايات المتحدة لتشعر بالقلق إزاء الصعود الصينى المتسارع، خلال العقدين الماضيين، لولا الفجوة السكانية الهائلة بين العملاقين. وقد رجحت أحدث توقعات مكتب الإحصاء الأمريكى، توقف النمو السكانى بحلول عام 2080، ثم انكماشه بحلول عام 2100. وتعكس التوقعات الأولى منذ عام 2018، سنوات من تراجع معدل المواليد وارتفاع معدل الوفيات. وذلك بسبب شيخوخة السكان وزيادة الاعتماد على الهجرة فى النمو السكانى، الذى انخفضت معدلاته من 1.2% فى تسعينيات القرن الماضى، إلى 0.5% اليوم، لتتراجع إلى 0.2% عام 2040. ومن المتوقع أن يتباطأ بين عامى 2023 و2053، بمتوسط 0.3% سنويًا خلال تلك الفترة. وبينما تظل معدلات الخصوبة أقل من المعدل المطلوب ليحل جيل محل نفسه دونما هجرة، سيلقى هذا التحول بظلاله على الاقتصاد الأمريكى، ونفوذ واشنطن الجيو سياسى كونيّا. مع وجود عدد أقل من العمال الشباب لدعم المسنين، وبرامج شاملة للضمان الاجتماعى والرعاية الصحية، التى ستواجه قيودا أكبر. كذلك، لم يكن المتغير الديموغرافى مجافيا لمخيال مفكرى القرن الأمريكى، الذين استشرفوا نهاية الغرب، من أمثال، إيمانويل تود، ستجلتز، جوزف ناى، ميرشهايمر، وفريد زكريا.

•  •  •

تتوجس روسيا خيفة من تداعيات الأزمة الديموغرافية المتمثلة فى تراجع معدل الخصوبة إلى 1.41 طفل لكل امرأة فى سن الإنجاب، عام 2023؛ بما يقوض المعدل المطلوب للتجدد السكانى. لذا، تبنت السلطات «سياسة صون القيم التقليدية»، ضمن نهج محافظ، يعتمده الرئيس، بوتين، منذ اندلاع حرب أوكرانيا قبل أكثر من عامين، والذى يعتبر «الأسرة القوية قيمة تقليدية» فى روسيا. وقد حظرت المحكمة العليا «الحركة الدولية للمثليين، مزدوجى الميل الجنسى ومغايرى الهوية الجنسية». ومؤخرا، أقر مجلس النواب، بالإجماع، قانونا يحظر الترويج لمبدأ «حياة من دون أبناء».

تلمس، مارى فرانسواز رينارد، فى الديموغرافيا مشكلة هيكلية لاقتصاد الصين. فبينما ساهمت الزيادة السكانية فى نموه المتصاعد خلال العقود الأخيرة، يشكل انحسارها، اليوم، تهديدا للمعجزة الاقتصادية الصينية. وعلى وقع تسارع معدل تهرم أو شيخوخة المجتمع، أى زيادة أعداد من هم خارج قوة العمل (فوق 65 سنة)، فى مقابل من هم فى سن العمل (15- 65)، ألغت بكين عام 2015 «سياسة الطفل الواحد»، التى فرضتها عام 1980، وسمحت بإنجاب طفلين، ثم بثلاثة عام 2021. حيث يفرض ارتفاع متوسط العمر أعباءً إضافية على الاقتصاد، إذ يضطر قوة العمل لإعالة أعداد أكبر من المُسنين، بما يولد ضغوطا على النظام الصحى ومنظومة الضمان الاجتماعى.

•  •  •

تتسارع وتيرة تقدم الهند اقتصاديا، عسكريا وتكنولوجيا، بفضل اعتماد استراتيجية سحرية تتيح لها الاحتفاظ بدعم تكنولوجى غربى، وشراكة استراتيجية مع روسيا؛ فيما باتت تناطح الصين ديموغرافيا. فالبلد، الذى يقترب عدد سكانه من مليار ونصف المليار نسمة، يمثلون 18% من إجمالى سكان الكوكب، تخطى الصين ديموغرافيا، ليغدو، منذ مايو الماضى، أكبر دول العالم سكانا. كما تمتلك الهند معدلات خصوبة تفوق نظيراتها الصينية، وتحظى بأكبر معدل لمواليد الأطفال عالميا، فيما يتجاوز عدد الوفيات فى الصين، عدد المواليد الجدد سنويا. الأمر، الذى يحفز الصعود الاقتصادى للهند، مع اقتراب قوة عملها من مليار نسمة، كما يعزز مكانتها الجيوسياسية لدى الغرب، الذى يدعم تطورها للجم الصعود الصينى المريب.

•  •  •

فى كتاب أصدره، حديثا، بعنوان :«نهاية الغرب»، استعرض فيه تأثير الديموغرافيا السياسية على مستقبل الريادة الغربية، توقع الباحث الفرنسى، إيمانويل تود، أفول تلك الريادة. حيث تتبع أفول القوى العالمية، إثر تراجع أعداد سكانها. لافتا إلى أن الرصيد الحضارى لأوروبا، آخذ فى التآكل، بجريرة انكماش سكانها الأصليين، وانحسار معدلات المواليد، وتقلص معدلات الزيجات الطبيعية، التى تنتج أجيالا جديدة. واليوم، يمثل كبار السن فى أوروبا 20٪ من إجمالى السكان؛ ومن المتوقع أن تقفز تلك النسبة إلى أكثر من 25% عام 2050. ويزداد التهرم فى القارة العجوز، مع انخفاض معدلات الوفيات، وتراجع معدلات الخصوبة؛ لتكون المحصلة صفرية، أو سلبية فى بعض البلدان.

بينما تشكل الهجرة من المجتمعات ذات الفائض السكانى، كمثل إفريقيا، إلى مجتمعات العجز السكانى، قبلة الحياة بالنسبة للأخيرة؛ برأسها تطل هواجسها الاجتماعية، الثقافية، الحضارية والأمنية، حيال المهاجرين. وفى حين تبدو الهجرة حلا أمثل، على المدى القصير، فإنها تشكل معضلة على المدى البعيد؛ نظرًا لتبنى أبناء الجيل الثانى للمهاجرين ثقافة إنجابية تتماهى مع الدول المستقبلة. حيث يغشاهم العزوف الإنجابى، وتتدنى بينهم معدلات الخصوبة لتلامس مثيلاتها الأكثر انكماشا لدى السكان الأصليين.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved