ساحات المقاومة وأهمية المفاوضة
مصطفى الفقي
آخر تحديث:
الإثنين 18 ديسمبر 2023 - 10:30 م
بتوقيت القاهرة
«يمكن للمفاوض الفلسطينى أن يجلس إلى مائدة المفاوضات مع الطرف الآخر من دون حساسية أو شعور بالنقص».
إن الشعوب التى تحررت والأمم التى قاومت الاحتلال اعتمدت على الطريقين معا، القتال والمفاوضات، وهى لم تجلس إلى مائدة التفاوض إلا عندما تأكدت أنها قامت بحل العقدة أو مركب النقص الناجم عن غياب التوازن الاستراتيجى بين الجانبين، وذلك ما حدث بالتأكيد بعد حرب 1973 عندما استعاد الجيش المصرى ثقته بذاته وأدرك أن المواجهة العسكرية أنهت إلى حد كبير أسطورة «الجيش الذى لا يُقهر» وأعنى به «جيش الدفاع الإسرائيلى»، واستطاع الضباط المصريون العظام وعلى رأسهم الفريق محمد فوزى دفع الجيش المصرى إلى ساحة المعركة وهو مهيأ تماما لمواجهة الجيش الذى يحتل سيناء، متوهما أن مصر أصبحت جثة هامدة لا تقوى على القتال إلا بعد 50 عاما فى الأقل.
الأمر نفسه ينسحب حاليا على القوات الباسلة لحركة «حماس» فى إطار المقاومة الفلسطينية لجيش الاحتلال الذى فرض على الشعب الفلسطينى العظيم قيودا لم نرَ لها مثيلا من قبل، بدءا بالإعدام رميا بالرصاص فى الشوارع إلى هدم المنازل على رءوس سكانها وترويع الآمنين من خلال النموذج الإسرائيلى المعروف الذى يمكن أن نطلق عليه نموذج «إرهاب الدولة»، أى تحول الدولة بكامل قدراتها إلى مصدر يؤرق الطرف الآخر. فالبصمة التى تركتها عملية السابع من أكتوبر الماضى على وجه الجيش الإسرائيلى ستظل وصمة عار يعانيها ذلك الجيش الذى هزمته حركة فلسطينية واستولت على أسلحته وعتاده وأسرت المئات من أبنائه.
ونحن هنا لا نقوم بعملية تقويم لما جرى، ولكن نرصد ما يجرى وتأثير ذلك فى المعنويات الفلسطينية، إذ إن مقاتلى «حماس» أدركوا أنهم فقدوا المعارك من حيث «التكنيك»، ولكنهم كسبوها على المدى الطويل من حيث الاستراتيجية والاعتراف بقدراتهم، على رغم صعوبة الظروف وإحكام القبضة الإسرائيلية على مفاصل الأرض والسكان والتحكم تماما بعنصرى الزمان والمكان، لذلك فإن المفاوض الفلسطينى فى ظنى يمكن أن يجلس إلى مائدة المفاوضات مع الطرف الآخر من دون حساسية أو شعور بالنقص، فالحرب حاربها ووصل بها إلى معارك من شارع إلى شارع ومن منزل إلى منزل، كما أن رصيده أمام الرأى العام العالمى على مستوى الشعوب داعم ومؤيد، أما على مستوى الحكومات فإن كثيرا منها منحاز إلى الجانب الإسرائيلى بحكم سيطرة الولايات المتحدة على المنظمات الدولية واستخدامها لحق «الفيتو»، فى ظل معادلة صفرية لا ذنب للفلسطينيين فى وجودها.
ولنتذكر جيدا أن الحقوق لا تعود لأصحابها بالقتال وحده ولا بالتفاوض وحده أيضا، ولكنها تعتمد على العنصرين معا، عنصر التميز على الأرض بمعنى عدم الانسحاب أمام جحافل الطرف الآخر وأسلحته المتقدمة التى تتدفق عليه من الأم الحانية الولايات المتحدة، ولنتذكر دائما أن الذين حاربوا فاوضوا أيضا وأن السلام لا يتحقق فى النهاية إلا بالجلوس إلى طاولة المفاوضات، فتلك هى نهاية كل حرب ونتيجة كل مقاومة.
وليسمح لى القارئ بعرض أمثلة من خلال الملاحظات الآتية:
أولا، إن السياسى التونسى الذى سبق عصره الحبيب بورقيبة هو أهم من تحدث عام 1965 فى لقاء أريحا عن حل الدولتين وهو صاحب نظرية التدرجية فى حل المشكلات أو مبدأ «خذ وطالب»، وفقا للمقولة الفقهية الشهيرة أن «ما لا يُدرك كله لا يُترك جله». كما أن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر عندما ذهب إلى الخرطوم لحضور القمة العربية ورفع هو ورفاقه شعار اللاءات الثلاثة، فكأنما كان يفعل ذلك فى أعقاب هزيمة يونيو المريرة بكل تداعياتها السلبية. ولكن عبدالناصر لم يغلق رأيه عند هذا الحد، بل استقبل عددا من المبعوثين المصريين من ذوى الخبرة فى فهم الرأى العام الغربى إذ إنهم عاشوا أعواما طويلة فى الخارج، وتيقن له أن التلويح بالسلام، إلى جانب الاستعداد للحرب، يؤدى إلى نتائج إيجابية فى الصراع الدائر بين الأطراف. وتذكر مراجع القانون الدولى القديمة والحديثة أن وسائل حل النزاعات أربع تبدأ بالعمل العسكرى وتنتهى بالمفاوضات وتمر بينهما بكل من الوساطة والتحكيم، ولقد استعادت مصر، على سبيل المثال، أرضها بالوسائل الأربع، فقاتلت فى 1973 ودخلت فى مفاوضات مع الخصم بعد ذلك وقامت بعض الشخصيات الدولية مثل مستشار النمسا برونو كرايسكى بدور وسيط وانتهى الأمر باستعادة مصر لكل أراضيها بما فى ذلك منطقة طابا بالتحكيم الدولى أيضا، وبذلك فإنه لا يوجد باب مغلق أمام المفاوضات ما دامت الطرق مفتوحة والوسائل متاحة بين الأطراف المتصارعة، وقديما قالوا «شيئان يباح فيهما كل أمر... الحب والحرب»، فكل الوسائل مشروعة بحيث يجرى استخدامها فى الصراعات القائمة، بينما لا يكون الأمر كذلك فى الظروف العادية والسياسات اليومية المعتادة.
ثانيا: إن التكتلات الإقليمية والتجمعات الجيوسياسية تطرح نفسها فى منطقة الشرق الأوسط على نحو غير مسبوق، ففى حرب غزة الأخيرة كان التناغم واضحا بين المقاومة على أرض فلسطين التاريخية سواء فى القطاع أو فى الضفة، متوازيا مع المواجهات فى شمال العراق وشرق سوريا ضد الوجود الأمريكى أو القوى المتعاطفة معه هناك، ثم حاول «حزب الله» على الجانب الآخر أن يحرك الحدود اللبنانية ــ الإسرائيلية بفتح جبهة الجنوب وإن لم يستكمل ذلك لأسباب تتعلق بالعلاقات الإيرانية ــ الأمريكية ومستقبلها القريب والاتفاق النووى المزمع توقيعه بين طهران والدول الغربية حول نشاطها النووى. ثم برز محور جديد آتٍ من جنوب الجزيرة العربية تمثل فى غارات الحوثيين على السفن العابرة لباب المندب والهجوم عليها بطائرات مسيّرة أو بزوارق اعتراضية رغبة فى تأكيد التنسيق بين ساحات القتال أمام الوجود الأمركى ــ الغربى ــ الإسرائيلى فى المنطقة، وكذلك يمكن اعتباره نوعا من إثبات الوجود لمحاور طهران العسكرية فى المنطقة. ولا شك فى أن ما فعله الحوثيون لفت نظر الغرب إلى الأخطار الناجمة عن وجودهم فى جنوب الجزيرة على نحو ربما يهدد أمن البحر الأحمر من جانب آخر.
ثالثا: إن الحربين العالميتين الأولى والثانية انتهتا بعد قتال مرير راح ضحيته عشرات الملايين من أبناء الشعوب الأوروبية والآسيوية بل الأفريقية أيضا، ولكن تلك الحروب الكونية الكبرى انتهت بالوسائل السلمية وكانت اتفاقات استسلام الدول مناسبات تاريخية حزينة لها ودليلا على انصياع العالم المعاصر لمفهوم الاعتراف بالقوة العسكرية. ومهما اختلفت وجهات النظر وفقا للدراسات الاستراتيجية المعاصرة، إلا أن المركز التفاوضى لأطراف الصراع إنما يتحدد قوةً وضعفا بحسب أوضاعها على الأرض فى ميادين المعارك، إذ لا شك فى أن التفوق العسكرى فى الحروب يعطى تلقائيا ميزة للدول المتحاربة ويجعلها فى مركز تفاوضى أقوى من غيرها، فساحات القتال تظل هى «الترمومتر» المؤثر فى قوة المفاوض على الجانب الآخر من الصراع المحتدم.
رابعا: أظن أن الإقدام على العمل العسكرى بين الأطراف المتصارعة هو تمهيد تلقائى لفتح طريق نحو المفاوضات فى مرحلة تالية، لذلك ليس غريبا أن يقال إن هنرى كيسنجر داهية الدبلوماسية الأمريكية نصح السادات قبيل حرب أكتوبر عام 1973 بضرورة القيام بعمل عسكرى لتحريك الموقف على جبهات القتال بين مصر وإسرائيل على نحو يدفع الطرفين إلى طاولة المفاوضات بصورة جدية وفاعلة، إيمانا منه بأن التسوية السياسية آتية فى نهاية المطاف، مهما كانت العقبات والمصاعب إلا أن عنصر الزمن يقوم بدوره الفاعل فى هذا السياق.
خامسا، إن حرب غزة الأخيرة، على رغم الآلام والدموع والدماء والضحايا، إلا أنها قد تكون مقدمة للتفكير الجاد فى تسوية شاملة وعادلة تتيح الحد الأدنى من مطالب كل طرف وتصبح مبررا لاتفاق سلام تلتزم به الأطراف كافة، إذا خلصت النوايا وصدقت المواقف.
إننى أردت من هذه السطور السابقة أن أقول إنه ليس بالمقاومة المسلحة وحدها تتحرر الشعوب، ولكن لا بد من زخم سياسى يملأ الفراغ ويعطى الجميع الحق فى حياة آمنة فى إطار الشرعية الدولية واحترام حقوق إنسان العصر ويجدد الأمل فى المستقبل، بعيدا من هوس الحروب ومأساة القتال والرغبة الدائمة فى سفك الدماء.