«صبرى موسى».. المقيم فى الظل المرتحل فى صمت
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
الجمعة 19 يناير 2018 - 10:40 م
بتوقيت القاهرة
فى كثير من اللقاءات والندوات التى جمعتنى بعدد كبير من شباب القراء والقارئات المهتمين بفن الرواية والمحبين لها، وكذلك بعض الكتاب الجدد، لفتنى أن هناك أجيالا بكاملها لم تسمع عن أسماء مبدعين كبار جدا بقامة فتحى غانم، وسعد مكاوى، وعبدالحكيم قاسم، وأحمد الشيخ، ومجيد طوبيا، وصبرى موسى الذى غادرنا صباح الخميس الماضى عن 86 عاما، عاش أغلبها فى هدوء وعزلة وبعد عن الأضواء رغم جسارة ما أبدعه وتركه من أعمال عظيمة فى الرواية والقصة والسيناريو، كرست اسمه ضمن آباء الرواية العربية المعاصرة باقتدار.
فوجئت بأن معرفة هؤلاء الشباب بإبداع هؤلاء الكبار الراسخين لا تتعدى مجرد ذكر الاسم، وإن سمعوا بهم فإنهم لم يقرأوا لهم شيئا، ولم يتعرفوا على أعمالهم الروائية المهمة. ومن المؤسف أن يغيب عن نظر هؤلاء إبداع روائى بحجم وقيمة «صبرى موسى» على الأخص، وهو من هو فى قيمة وتفرد إبداعه السردى.
صحيح أن شهرة نجيب محفوظ، ولعقود طويلة، طغت على أسماء عدد كبير من أبرز وأهم الروائيين فى مصر ممن ظهروا خلال عقدى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى. (كانت هذه المسألة؛ الشهرة الطاغية لمحفوظ، وتعامل البعض معها على أنها عقبة فى مسيرة الرواية العربية، محل جدل ونقاش طويل ربما ما زال ممتدا حتى اللحظة!) لكن ودون دخول فى تفاصيل ذلك الجدال المعقد، فإنه بات من المعلوم، أو مما أجمع عليه مؤرخو الرواية ونقادها فى مصر، أن الكاتب الكبير صبرى موسى (1932ــ2018) من أهم الروائيين الذين ظهروا بعد محفوظ، وتمردوا على الشكل المحفوظى فى الكتابة، وربما يكون فى نظر البعض هو الروائى الأهم فى الجيلين التاليين له، وأنه قد فتح الباب أمام نوع جديد فى الأدب العربى بروايته ذائعة الصيت «فساد الأمكنة».
البعض يرى، وأنا منهم، أن صبرى موسى كاتب عظيم لم ينل حقه من التقدير اللائق (ومن الكتابات النقدية أيضًا).
لعل تجربة صبرى موسى بأكملها فى حاجة ملحة لإعادة قراءة ونظر واستيعاب، كان مثل فتحى غانم ممن اشتغلوا بالصحافة مبكرا واحترفوها، ولعبت دورا كبيرا فى إغناء الموهبة وتطويع الأسلوب؛ أتساءل لو لم يعمل صبرى موسى فى الصحافة هل كان كتب روائعه القصصية البارعة أو روايتيه الفريدتين «حادث النصف متر»، و«فساد الأمكنة» أو كان كتب ما كتب فى أدب الرحلات ووصف الصحراء بكل هذه البراعة والقدرة على الرصد والوصف واستقصاء التفاصيل؟
الصحافة تمكن الروائى، والروائى بالتحديد، وليس أى شخص آخر، من امتلاك التفاصيل الصغيرة والدقيقة والرواية فى وجه من وجوهها هى «فن التفاصيل الدقيقة». الصحافة تمكن الروائى من السير فى الشوارع الخلفية للحياة، وأن يراها كما هى، ثم يدرك ما وراء الأشياء والظواهر والعلاقات المعقدة المتشابكة. ربما له لهذا كانت لغة صبرى موسى «محايدة» وغير متورطة، متخلصة من كل الشحنات العاطفية، حرة تماما، وهادئة أيضا، وفى نفس الوقت رشيقة، هو الذى يقودها ويوجهها حيث يريد، ولا يدعها تأخذه إلى طرق غير مسلوكة، كان المرحوم الناقد الكبير غالى شكرى يقول عن صبرى موسى إنه «يبحث فى صبر وأناة وجمال عن رؤى تخترق أحشاء الواقع، فتصل إلى نبوءة جمالية عميقة لأخطر الهزائم وأبقاها فى كياننا الروحى».
ويبدو صبرى موسى مختلفا عن جيله، ليس فى الكتابة فقط بل فى الحياة أيضا، يبدو الأمر كأنه اختيار شخصى منه، لذا قرر أن يمشى وحيدا وبعيدا عن الآخرين، مشغولا بالإنسان فقط، بعيدا عن أى أيديولوجيات أو توجهات سياسية معينة، كما رصد بصدق الكاتب والروائى الطاهر شرقاوى.
إذن، فقد غادرنا صبرى موسى، العازف عن الضوضاء والصخب والنميمة، صاحب التجريب الفاخر، والكتابة المتمردة بوعى؛ الآخذة بشروطها، كتابة مسبوكة بروح الفن، ورؤية مختلفة للعالم وللكتابة، وبتعدد مستويات لغوية فى السرد والحوار تدرس للجادين فى التماس الطريق والبحث عن علامات.
رحم الله صاحب الروائع «فساد الأمكنة»، «حادث النصف متر»، «السيد من حقل السبانخ»، «السيدة التى والرجل الذى لم»؛ وكلها روايات مهمة، وكلها جدير بأن يحتل مكانه ومكانته فى مدونة الروايات العربية الخالدة، وله من القصص والحكايات «حكايات صبرى موسى»، «مشروع قتل جارة»، والمجموعة التى أحبها وأعيد قراءتها من آن لآخر «القميص»، فضلا على كتاباته البديعة فى الرحلات، وإبداعاته الشامخة فى فن السيناريو «البوسطجى» و«قنديل أم هاشم».. رحم الله كاتبنا الكبير صبرى موسى.