مثلث الإدارة والعلم والتكنولوجيا
محمد زهران
آخر تحديث:
السبت 19 مارس 2022 - 7:25 م
بتوقيت القاهرة
فى سنة 1948 تم تصميم أول ترانسيستور فى العالم فى معامل بل الشهيرة (Bell labs) وإن كانت فكرته ظهرت قبل ذلك بكثير نحو سنة 1925، هذه الجملة تحمل الكثير من الأسئلة: ما أهمية هذا الاكتشاف؟ وماهى معامل بل؟ وما العلاقة بين الفكرة والتصميم؟ وما أهمية كل ذلك لنا؟
الترانسيستور هو حجر البناء لكل أجهزة الكمبيوتر فى العالم فى عصرنا هذا، لولا التطور فى تصميم الترانسيستور (تلك القطعة الالكترونية الصغيرة الحجم) لما أصبح عندنا أجهزة كمبيوتر فى الساعة أو التليفون أو حتى اللابتوب، ولولا هذا التطور لما كان سرعة تليفونك الذكى الآن تفوق بآلاف المرات سرعة أجهزة كمبيوتر عملاقة فى السبعينيات مثلا، من أوضح الأمثلة على تطور أجهزة الكمبيوتر أن شركة مثل أى بى إم صممت جهاز سوبر كمبيوتر عملاق تكلف ملايين الدولارات سنة 1997 يسمى ديب بلو كى يفوز على بطل العالم فى الشطرنج آنذاك جارى كاسباروف، الآن بطل العالم الحالى يخسر أمام برنامج شطرنج مجانى تحمله على اللابتوب أو التابلت، وقس على ذلك فى كل المجالات التى اقتحمتها أجهزة الكمبيوتر ومن أهمها الذكاء الاصطناعى الذى لولا التطور الشديد فى أجهزة الكمبيوتر وسرعتها لظل الذكاء الاصطناعى مجرد علم أكاديمى ظريف.
معامل بل (Bell Labs) كانت من أشهر معامل الأبحاث فى العالم من السبعينيات وحتى التسعينيات، كان يعمل بها الكثيرون من الحاصلين على جوائز نوبل فى مجالات عديدة ولهم الفضل فى اختراع وتطوير الخلايا الشمسية وأشعة الليزر وعلم تكنولوجيا المعلومات والكثير من لغات البرمجة والترانسيستور الذى ذكرناه والقائمة تطول. هذه المعامل وإن كانت ما زالت موجودة حتى الآن إلا أنها مجرد شبح لتلك المعامل التى كانت تبهر العالم باكتشافاتها، وعلماء الإدارة عليهم دراسة ما حدث لتلك المعامل واستخراج الدروس المستفادة، هناك بعض الكتب التى ظهرت عن تلك المعامل لكنى أعتقد أن المجال لا يزال مفتوحا وخصبا أمام علماء الإدارة لمعرفة أسباب تدهور الشركات والمعامل.
ذكرنا فى أول المقال أن فكرة الترانسيستور ظهرت قبل تصميمه بمدة كبيرة فلماذا؟ القصة تبدأ بالعلم وتنتهى بالتكنولوجيا، أى أن العلم يكشف عن نظرية ما ثم يتلقفها المهندسون والتطبيقيون ليحولوها إلى منتج ينفع البشرية، لكن ليست كل النظريات تتحول إلى منتجات حتى وإن كانت صحيحة ومن النظريات ما تنتظر عشرات السنين حتى تتحول إلى منتج، فمن يتخذ القرار؟ إنهم من يعملون فى الإدارة، المدير التنفيذى فى الشركات الكبرى وفريقه المعاون لهم يد كبرى فى هذا القرار. وحيث أننا نتكلم عن شركات فالدافع الأساسى هو اقتصادى بالطبع لأن استمرار المدير التنفيذى فى موقعه مرتبط بالأرباح التى يحققها للشركة. اتخاذ القرار لتحويل نظرية إلى منتج يعتمد على عوامل عديدة منها: ما هو حجم السوق المتوقع لهذا المنتج أو هذه الخدمة؟ ما هى تكلفة تحويل النظرية لتطبيق؟ وما هو حال المنافسين؟ والكثير من العوامل الأخرى.
قد يكون من المنطقى إذا لو كان العالم صاحب الاختراع أو النظرية هو نفسه المدير التنفيذى لتحويلها إلى منتج، تاريخ التكنولوجيا يخبرنا أنه فى أغلب الأحوال لا ينجح هذا الشخص ولنأخذ مثالا.
مصممو الترانسيستور فى معامل بل ثلاثة: جون باردين ووالتر براتين وويليام شوكلى وقد حصل ثلاثتهم على جائزة نوبل فى الفيزياء سنة 1956 عن عملهم هذا، وقد حصل جون باردين على جائزة نوبل للمرة الثانية سنة 1972 فى الفيزياء أيضا، لكن من يهمنا فى الثلاثة هو ويليام شوكلى.
قرر شوكلى أن ينشئ شركة لصناعة منتجات تعتمد على الترانسيستور وكان من أوائل من ذهبوا إلى وادى السيليكون الشهير الآن فى كاليفورنيا لإنشاء شركته هناك، هو أكثر الناس علما بالترانسيستور وصناعته وهو عالم كبير معروف إذا فالنجاح مضمون، لكن الحقيقة كانت بخلاف ذلك.
ما فعله شوكلى فى شركته أصبح يدرس فى كليات الإدارة كمثال للإدارة الفاشلة، لقد كان الرجل موسوسا إلى أقصى حد من سرقة أفكاره وكان لا يثق فى معاونيه حتى أن هناك بعض القصص أنه كان يستخدم معهم أجهزة كشف الكذب، أدى ذلك إلى أن ثمانية من أفضل مهندسيه تركوا العمل فى شركته فى ليلة واحدة، وقد أسماهم الخائنين الثمانية (جرب البحث على الإنترنت على عبارة «The traitorous eight»)، وأنشأ هؤلاء الثمانية شركة أخرى باسم فيرتشايلد والتى تركها عدد من العاملين بعد عدة سنوات لإنشاء ما نعرفه الآن بشركة إنتل.
إذا العالم غير المهندس والمهندس غير المدير لكنهم الثلاثة يمثلون أضلاع المثلث المسئول عن ظهور خدمات ومنتجات تجعل حياتنا أسهل ولكن ليس بالضرورة أفضل.