الماضى يعود أحيانا.. لماذا؟
جميل مطر
آخر تحديث:
الثلاثاء 19 أبريل 2016 - 9:45 م
بتوقيت القاهرة
قرأت عن مفكرى الإغريق وحكمائها أنهم كانوا مثلنا، أو مثل بعضنا، عندما يكتبون عن الماضى تختلط فى أذهانهم الوقائع. أحيانا ينسون التفاصيل، وأحيانا أخرى تتبادل الوقائع المواقع. ولما كان النسيان آفة مذمومة عمد أهل الكلمة إلى بذل كل جهد ممكن وخلق كل وسيلة تساعدهم على مطاردة النسيان. قيل بين ما قيل أنهم توصلوا إلى وسيلة لعلها بالفعل الأفضل، هى تلك التى تربط الموضوع بمكان، فإن أراد إنسان الحديث أو الكتابة عن لقاء وقع ذات يوم، فما عليه إلا أن يتذكر أولا موقع اللقاء، وعندها تنهمر التفاصيل وتتدفق الذكريات.
* * *
أظن أن أسلافنا من الإغريق لم يخطئوا أو يبالغوا حين أطلقوا على هذه الوسيلة لاستعادة الذكريات «قصر الذاكرة»، أى المكان الفخيم الذى يحتفظ فيه عقل الإنسان بمواقع الأحداث والموضوعات. ومن هذه المواقع ينطلق بحثا عن بدايات قصة عاطفية أو شرارات خلاف أو تفاصيل لقاء. أقول إن الإغريق ربما لم يخطئوا لأننى أعيش هذه الأيام تجربة استرجاع أحداث من الماضى، أعيشها بشغف وبرغبة حقيقية فى أن أعرف بعض ما خفى عنى من خلفيات أحداث عايشتها ونسيت تفاصيلها أو لم اهتم وقتها بالاحتفاظ بها. الآن أريد أن أعرف. أما لماذا الآن؟ فلعله السؤال الذى صار يحلو لى الإجابة عنه، حتى أن التفكير فيه أزاح عن كاهلى كثيرا من هموم ماضى ثقيل، وكان يزداد ثقلا.
* * *
ما حاجتى، وحاجة كثيرين غيرى، إلى هذه النوستالجيا العارضة. حاجتى شديدة واعترف بها، وبخاصة بعد أن اكتشفت أن ممارستها شائعة ولا تجرى فى الخفاء ولا تعكس عجزا أو مرضا أو نقصا. كان من الظن الخائب الاعتقاد بأن جميع ممارسى الحنين إلى الماضى إنما هم ضحايا أحداث مؤسفة أو أزمنة قاسية جعلتهم يهربون من واقع حاضر أليم إلى واقع ماضٍ سعيد. لم ندرك أنه حتى إن كان هذا الاعتقاد صحيحا فإنه أفضل من الاعتقاد بأن ممارسى الحنين إلى الماضى إنما يتخيلون «ماضيا»، أى يختلقون ماضيا افتراضيا أو خياليا يفترضون أحداثه ويعينون له أشخاصا ويبتكرون لأنفسهم أدوارا يلعبونها فى خيالهم، هؤلاء، يخشى عليهم من التورط فى حالة مرضية إن تمادوا فى الحنين إلى ماضٍ لم يقع، وإلى أحداث ووقائع ولكن لا مواقع.
* * *
كلنا نراقب الأحداث والتطورات من حولنا بعيون الحاضر، وبعضنا يحللها ويحكم عليها بعيون الماضى. تمكنت منى خشية كبرى حين وجدت عديد المثقفين والمفكرين صاروا يحللون أمور بلادهم بعيون الماضى، أفهم أن نقارن الحاضر بالماضى إن كان هناك ما يستحق المقارنة أو يتحملها، ولكنى لا أفهم أن تحكم من الماضى على الحاضر.
للتوضيح اختار مثالا بعيدا عن السياسة ومثقفى بلادى. عدت إلى أمريكا بعد غياب عشرين عاما. اخترت أن أفعل ما أفعله عادة فى رحلاتى فى عهود الشباب، أمشى فى الشوارع، أشاهد بعيونى، أى بعيون الحاضر، شعبا يعمل ويأكل ويلعب ويمشى ويركب. انتقلت من حى إلى حى، ومن سوق إلى سوق، ومن مبنى إلى مبنى، ومن قاعة محاضرات إلى أخرى، ومن تياترو إلى دار سينما. بعد يومين من المشاهدة والملاحظة والتدوين اكتشفت أننى ارتكبت خطأ لا يغتفر، اكتشفت أننى كنت أشاهد وأراقب وأحلل بعيون الماضى، بعيون عشرين سنة مضت. كنت أمارس الحنين إلى الماضى. هنا على هذه الناحية بين الشارع الثالث والأربعين والطريق الثالث وقع اللقاء الأول.. هناك فى بارك أفينيو أقمت عند صديق قبل أربعين عاما لمدة قصيرة. رحت أبحث عن مقاهٍ ومطاعم ومواقع زرتها فلم أجدها.
***
تغيرت أمريكا.. أو هى تتغير. نسبة كبيرة من نسائها أقل رشاقة، نيويورك تتحدث بلغات أكثر عددا من لغات تعودت عليها. تغيرت نسب ألوان بشرة سكانها. صارت السمرة غالبية ومطاعم الأكلات السريعة أقل عددا، والصحف الورقية أقل توزيعا، وأكاد أؤكد أننى لم أشاهد نيويوركيا واحدا أو واحدة يحمل جريدة تحت إبطه أو يقرأها فى المترو.
تغيرت أمريكا وتغيرنا نحن. بهذا الاقتناع بدأت رحلة إعادة اكتشاف أمريكا بعيون الحاضر.