عرّاب المعانى والحكايات
محمود عبد الشكور
آخر تحديث:
السبت 19 أبريل 2025 - 6:50 م
بتوقيت القاهرة
كان يوسف إدريس يفترض أنه يجب أن تكون لدينا قصص قصيرة بعدد البشر، فكل إنسان له قصة يمكن أن تُحكى، لولا أنه ليس لدينا كتّاب بعدد البشر، يمكنهم أن ينحتوا من حجر الحكايات تماثيل جميلة.
وكنت، وما زلتُ، أعتقد أن القصة القصيرة هى أقرب فنون النثر إلى الشعر، وأنها، بتكثيف اللغة والمعنى، وبموسيقى الحالة وألوانها، وبتلك العلاقات والجسور التى تشيّدها بين الكلمات، تقترب كثيرًا من جوهر فن الشعر، ويتضح ذلك أكثر عندما تلجأ إلى «التجريد».
راودتنى هاتان الفكرتان، وقد انغمستُ تمامًا فى قراءة مجموعة أقاصيص محمد المخزنجى، الصادرة عن دار الشروق بعنوان «رائحة الشمس» والتى جمع فيها حكايات وضعها جانبًا منذ سنواتٍ طويلة، انتظارًا لما أراده من اكتمال متتالية لموضوع أو «تيمة» ما، والتماسًا لتحقيق «تنويعات» أكثر على نفس اللحن، ولكنه اختار أن يصدرها الآن، قبل فوات الوقت، بعد أن تجاوز السبعين، متعه الله بالصحة والعمر.
بدا لى أن مقدمة المخزنجى للمجموعة هى فى ذاتها «قصة قصيرة»، هو بطلها، والحكايات موضوعها، والزمن العابر هو مصدر الصراع، وأنه، مثل يوسف إدريس، يفتش عن قصص العالم التى لم تُكتب، ليصبح صوتَ من لا يمتلكون موهبة الحكى أو الكتابة، لا بل إن المخزنجى يبحث أيضًا عن حكايات الأشياء، والحيوانات، والنباتات، والهوام، يتأملها بأدوات الشعر، ويستنطق مغزاها، ويرسم لوحاتها، ويلوّنها، ثم يقيم جسورًا بينها وبين الإنسان، لأنه البداية والنهاية، ولكنه أيضًا جزء من هذا العالم الذى يكوّن حكاية واحدة كبيرة، عبر قصصٍ صغيرة وكثيرة.
فى «رائحة الشمس» نماذج فريدة من فن «شعر النثر»، إن جاز التعبير، ولعله يجوز، دون أن تتفكك النصوص إلى تهويمات فارغة، فالكاتب لا ينسى أبدًا أنه يحكى، ولا يغفل التفاصيل، ولكن السؤال هو: «كيف يحكى؟»، وما هى رؤية ذلك السارد الذى يحكى؟ وكيف تكون لتلك السطور القليلة التى تمسك باللحظة، وتراها من خلال الميكروسكوب ضخمة ومجسمة، كيف لها أن تكون على مقام المعنى، ومن نفس طبقة الذات المتأملة؟
سرّ هذه القصص البديعة فى العين التى «ترى»، وليس فى العين التى «تنظر» فى الرؤية بالعمق، وليس فى الوصف الظاهرى، وإن أتقن المخزنجى ذلك الوصف بدرجة مذهلة، ولكنه إتقان من يزين لك الكعكة بالفواكه والحلوى، لكى تلتهم الكعكة بأكملها.
السرّ أيضًا فى خروج الرمز من الحكاية، وليس فى فرضه عليه، وكل ما يفعله الكاتب الأديب أن يتأمل، وألا يقف عند حدود الظاهر، وأن يؤمن بقوة الحكايات فى ذاتها، فتعطيه سحرها وسرها، ثم يبذل جهده بعد ذلك فى تحويلها من دائرة «القوة» إلى دائرة «الفعل»، فيلبسها ثوب الكلمات والموسيقى والإيقاع، ويجعل من الحجر تمثالًا.
السرّ كذلك فى تلك العلاقات والجسور التى يشيدها الفن بين الأشياء والأشخاص والمعانى. هذا بالضبط معنى «التوليف»، وهو جوهر عمل الفنان، إنه لا يخلق من عدم، ولكنه حرفيا «مشيّد جسور»، و«بنّاء مادته الخيال»، حتى وهو ينحت الواقع، والفنان أيضًا «حفّار يبحث عن المعنى».
المخزنجى ينحت إذن كل المواد، علمية أو واقعية أو تجريدية، بإزميل الفن، فلا تجد تنافرا فى «فنيّة» المجموعة، على اختلاف أنواع الأحجار التى نحتت منها.
يمكن أن نطبق ذلك على قصص المجموعة بلا استثناء، ولكنى سأعطيك بعض الأمثلة: فى قصة «نجيب محفوظ الثانى» يعرف السارد أن نجيب محفوظ قد نُقل إلى مستشفى الشرطة مصابا بطعنة سكين، فيستدعى من ذاكرته شخصًا آخر يشبه محفوظ فى الشكل، ولكنه رجل جاهل بسيط، إلا أنه فنان ينحت تماثيل خشبية، وكان يبكى لأنه تذكر أمه وقت طعن نجيب محفوظ.
هنا علاقة بين طرفين فى مكانين مختلفين، ولكنهما وجهان لنفس القصة، وعنوانان لنفس الفكرة، وكأن الطعنة قد صوبت إلى روح الوطن الخلّاقة فى تجلياتها المختلفة، وكأن نجيب فكرة ومعنى أكثر من كونه شخصا نحبه، نقلوه ذات يوم مطعونا إلى مستشفى الشرطة.
هذه مادة واقعية تمامًا منحها الفن جسرًا إلى معنى آخر، تماما مثل قصة «رائحة الشمس» التى تحمل المجموعة اسمها، فقد ارتبطت ذكرى الأم لدى السارد، بقيام الأم بجمع الغسيل، لا يتم الجمع إلا عندما تغرب الشمس، فصارت رائحة الغسيل بذلك هى رائحة الشمس التى جففته، بل هى رائحة الأم الغاربة (الراحلة)، التى أسكنت الشمس فى الغسيل، فانظر وتأمل كيف تم الحفر بحثًا عن المعنى؟ وانظر وتأمل كيف تُقام العلاقات بين الأشياء البسيطة؟ وكيف ستبقى رائحة الأم ما طلعت الشمس وما غربت، وما تكوّم الغسيل أمام أعيننا؟!
تتشكل مواد كثيرة بمثل هذه «التفانين» الماكرة، فى درة قصص المجموعة وعنوانها «كرسى ماشكا»، تظن أن السارد سيحكى عن مقعد من خشب، بينما سيحدثك عن جلوسه على حجر امرأة أوكرانية بدينة ضخمة ظريفة تعشق الحياة والضحك، تعلّمه النطق الصحيح للغة الروسية، ثم سرعان ما تصاب بمرض عضال يصرعها، فتتحول السيدة إلى معنى، ويصبح الكرسى عنوانًا على الراحة والبهجة والأمومة.
فى «كرسى الراكن» حكاية طبيّة بحتة تحولت إلى قطعة فنية: ذلك الجنين الأنانى الجالس فى بطن أمه على مقعد من الماء، يرفض النزول إلى العالم، فتؤدى أنانيته إلى دماره، ويتحوّل إلى مومياء عجوز!
يخرج الرمز من الحكاية فى لعبة الكراسى الموسيقية، لكى يفوز بها «ابن الناظر»، ويصرخ العمّال الذين دخلوا إلى الخلاط لإصلاحه وتنظيفه، لأن سائق الخلاط قد أداره وهم فى داخله، والآن عليهم أن يواجهوا الانسحاق، ولا شىء نسمعه سوى صدى كلماتهم المبتورة.
حتى الغابة التى نظنّها صامتة، يراها المخزنجى مكانًا لدراما وصراع مستتر بين أشجار الزان، والأعشاب الباحثة عن نور الشمس.
فى كل ركن حكاية، والقصة هى محاولة لتأمل الحياة، والبحث عن معنى، عبر تلك الحكايات. والمخزنجى هو عرّاب المعانى والحكايات.