إفطار فى حى الزهور
خولة مطر
آخر تحديث:
الأحد 19 مايو 2019 - 11:00 م
بتوقيت القاهرة
قالت لها أتمنى أن أدعوكِ على الإفطار فى بيتى المتواضع مع أولادى الثلاثة ولكن أنا خجلة لأن بيتى فى حى الزهور.. لمعت عينا السيدة وهى تسمع حى الزهور الذى هو أكثر من حى فى أكثر من مدينة عربية ليست كلها عواصم بل حتى المدن المتطرفة من خارطة الوطن..
***
سرحت بعض الشىء فى بحثها منذ سنين عندما اكتشفت فجأة أن هناك أحياء زهور فى عدد من المدن العربية وعندما بحثت عن تاريخها وجدت أن الكثير من التشابه يتبع الاسم ففى معظمها هى أحياء فقيرة لسكان الطبقة الكادحة؛ حيث الجدار عند الجدار وخلفها غرف صغيرة معتمة من ندرة الكهرباء أو كثرة انقطاعها ورطبة من قلة دخول أشعة الشمس الدافئة إلى تلك المكعبات التى تسمى مساكن.. يتعب سكانها من تعبهم وهم يحاولون أن يخلقوا مساحات آدمية فيها وتبقى هى أكثر دفئا بقلوبهم من كثير من القصور الرخامية.
***
استدرجت السيدة تلك الفتاة الأم فى الحديث عن أسرتها الصغيرة والكبيرة وعن حيهم الذى هو أكثر أمنا وسلاما لامرأة مثلها؛ حيث تعيش وحيدة مع أولادها لعمل زوجها فى مدينة بعيدة.. تبقى هذه الأحياء خائفة على سكانها، تخلق للأطفال مساحات من رمل وطين ليلهو بها حيث لا حدائق عامة ولا فضاءات جماعية.. تقول لها كنت سأدعوك لنجلس فى الحديقة العامة القريبة من الحى والتى كانت هى غرفة معيشة لكثيرين منا حتى استولى عليها ذاك المنفذ فاقتلع الشجر والياسمين والزهور ورمى بالمراجيح المتصدئة وراح يحفر ويحفر عميقا فى الأرض حتى تصور بعض الأهالى السذج أن السبب فى هدم الحديقة هو اكتشاف المسئولين لآبار نفط أو غاز أو مناجم للذهب فى قطعة الأرض تلك أو ربما آثارا تاريخية.. عندما ردد أحدهم ذاك بقناعة العارف ضحك الشاب الجامعى وقال له «أى نفط أى ذهب أى آثار؟» أتبحث عن الثروة! هز الرجل رأسه غاضبا أو ربما لأنه لم يفهم حتى هجمت الجرافات والرافعات ومئات العمال والمهندسين وما هى إلا بضعة أشهر وملامح المجمع السكنى والتجارى الفخم ظهرت واضحة وبدأت الأسوار فى الارتفاع وما هى إلا سنوات وتمدد المجمع وشرد آخرون من بيوتهم لأن الفقر لا يتجاور مع الغنى.. فكيف تتجاور النجاسة مع الطهارة كما قال ذاك المسئول الرفيع فوق كرسيه الذى بدى أكبر منه!
***
لم يدم الاسترسال طويلا وعاد الحوار إلى نقطة البدء وهى الدعوة على الإفطار من عاملة النظافة للسيدة التى تحمل بضعة أسطر قبل اسمها لوصف وظيفتها! رددت السيدة أنه يشرفها أن تفطر فى المنزل المتواضع فى حى الزهور.. وعادت مرة أخرى تطرح السؤال نفسه لماذا لا يوجد حى للزهور فى مدينتها رغم أن الفقر قد سور المدينة وراح محدودو الدخل كما يحب البعض تسميتهم أو تجميلهم أو تنظيفهم من تلك الصفة التى تعد عند البعض عارا على الرغم من أن السارقين يجوبون الشوارع والمجمعات فخرا واعتزازا هم وأبناؤهم!
***
يصطف محدودو الدخل عند مكاتب تردد عليهم عودوا غدا أو بعد غد أو الأفضل ألا تعودوا فالقائمة طويلة لمن ينتظر بيتا من بيوت الإسكان أو بيوت ذوى الدخل المحدود.. وسمعت هى عبدالحليم فى أغنيته الشهيرة وقد حور بعضهم فى كلماتها من طول انتظاره «يا ولدى قد مات شهيدا من مات فى انتظار بيت للإسكان؟!»
***
اضطرت الفتاة أن تعود إلى عملها حتى تلحق بإكمال مهماتها وتجرى للبيت لإعداد وجبة إفطار شهية لها ولأبنائها ولضيفتها التى بقيت مشدوهة من كرم الفقراء فى بلداننا وبخل الأغنياء.. فعندما تشاركك عاملة النظافة إفطارها فهى بذلك قد تبخس فى إفطاراتها المتبقية من النصف الثانى لشهر الصيام فقط لأنها تعرف أن المحبة تعنى أن تقتسم العيش والملح والرغيف وطبق الرز «المعمر».
***
وعادت السيدة إلى حزنها على أن فقراء مدينتها لا يملكون حتى حيا للزهور تحمل تسميته شيئا من الجمال الذى هو انعكاس لجمال سكانه من فقراء هذه الأرض الذين هم أكثر قربا منها.