أنا أيضا كنت شابا فى الثمانينيات
سيد محمود
آخر تحديث:
الثلاثاء 19 مايو 2020 - 8:30 م
بتوقيت القاهرة
أعتبر الكتاب الذى أصدره الناقد السينمائى محمود عبدالشكور هذا العام عن دار الكرمة تحت عنوان «كنت شابا فى الثمانينيات» هو المثال الأهم لما يسميه المؤرخون اليوم فى العالم «التاريخ من أسفل».
وفيه يقدم الكاتب شهادة بالغة الأهمية عن تحولات عاصرها ليكمل بها ما أنجزه فى كتابه الفذ «كنت صبيا فى السبعينيات» الذى أصدره قبل عامين وكتبه بعين الطفل المندهش الذى ينتقل من شبرا إلى صعيد مصر ليعيش فى بيئة عائلته وفى ظلال حكمة والده دارس الفلسفة المستنير.
وأتاح النص مفاتيح دالة عما عاشته مدن الصعيد الصناعية وكانت لديها فرص لخلق نموذجها الخاص لـ (الحداثة) وهو نموذج جدير بالاهتمام فليست لدينا كتابات كثيرة تؤرخ لواقع مدن مثل مدينتى نجع حمادى أو كوم امبو، وشهدتا تجارب فريدة فى التعدد الثقافى التقطها عبدالشكور بحساسية عالية،
وفى الكتاب الجديد يسعى لربط براءة تلك الدهشة الأولى بالوعى الذى ترسخ فى قلبه حين وفد إلى القاهرة للدراسة بكلية الإعلام.
ولمصطلح «التاريخ من أسفل» حكاية تستحق أن تروى بإيجاز، فقد ظهر فى كتابات كبار المؤرخين فى العالم اعتبارا من منتصف ثمانينيات القرن الماضى حين بدأ الأكاديميون يعتمدون على نماذج من كتابات وشهادات الناس العاديين ليكونوا أبطالا فى كتب التاريخ بدلا من كبار القادة والزعماء،
وحدث هذا بفضل أفكار ماركسية طورها مؤرخو مدرسة التابع الهندية وتواترت فيها كتابات مدرسة فرانكفورات النقدية وكتابات انطونيو جرامشى حول أساليب الهيمنة الثقافية لتساعد فى بلورة حضور المصطلح الذى تناسلت إلى جواره مصطلحات أخرى غيرت ملامح الكتابة التاريخية تماما
مثل «المايكرو تاريخ» فى بريطانيا، و«التاريخ اليومى» فى ألمانيا.
وهكذا انتقل الاهتمام من كتابة تاريخ الكيانات والمؤسسات الكبرى إلى تاريخ الأفراد العاديين، وظهرت مؤلفات جمعت بين تيارات النقد الثقافى مع الأنثروبولوجيا التاريخية وعاد التاريخ من جديد مادة شعبية تنافس الرواية فى المبيعات وفرص القراءة.
وفى بلادنا كانت لدينا إرهاصات مهمة فى هذا الاتجاه تزامنت مع هذا التحول العالمى أبرزها ما قدمه مؤرخ كبير مثل الراحل صلاح عيسى كتب سرديات تاريخية تعتمد على روايات المهمشين وأحدث انعطافة كبرى لم تكن بعيدة عن تحولات أخرى داخل الحقل الأكاديمى أعطت أولوية لدراسة التاريخ الاجتماعى إلا أن هذه الجهود لم تستثمر الطفرات المهنجية التى أحدثتها كتابات «مدرسة التابع» وظلت بعيدة عنها؛ حيث لم تعرف المكتبة العربية مؤلفات منهجية حول هذا الموضوع إلا فى العامين الأخيرين؛ حيث ظهر أول كتاب مترجم عن أعمال رائدها المؤرخ الهندى (رانا جيت غها) ترجمه المترجم السورى المعروف ثائر ديب ضمن سلسلة نقل المعارف التى تصدر عن هيئة البحرين للثقافة والتراث، كما أصدر المؤرخان المغربيان خالد البعقوبى وخالد طحطح كتابا مهما عن الموضوع صدر عن دار رؤية فى القاهرة.
ويثير كتاب (كنت شابا فى الثمانينيات) لمحمود عبدالشكور الكثير من التساؤلات عن طبيعة النص والحقل الذى ينتمى إليه وهل هو تاريخ بالمعنى الخالص الذى أشرت إليه أم هو سيرة ذاتية استثمر فيها الكاتب معارفه العميقة بفنون السرد الروائى والتقنيات السينمائية التى أتاحت له الانتقال بسلاسة من بؤرته الذاتية إلى تناول تحولات مجتمع بكامله.
وإذا قارن القارئ بين هذا الكتاب والكتاب الذى كرسه المؤلف لسنوات السبعينيات لأدرك ببساطة أن سنوات حكم السادات اتسمت بحيوية خلقتها التناقضات الكثيرة التى أفرزها عصره فى حين كان الركود هو كلمة سر سنوات الثمانينيات؛ حيث حرص مبارك على أن يكون هذا الركود سمة لعصره طوال ٣٠ عاما يرصدها المؤلف بأمانة كاملة انطلاقا من خبرته المباشرة المرتبطة بطبيعة دراسته وعمله فيما بعد ويتأمل القارئ عبر الكتاب عوالم كاملة على وشك الزوال خاصة ما يتصل منها بالمصادر الثقافية التى غزت وعى مؤلفنا وتنوعت بين المراكز الثقافية الأجنبية ومركز الثقافة السينمائية وقاعات مسرح الدولة وصنعت كلها حوافز ارتباطه بممارسة النقد السينمائى ومهنة الصحافة؛ حيث بدأ العمل فى مكاتب الصحف العربية فى القاهرة، وكانت جزءا من ملامح المشهد الصحفى وأشبه بـ (خدمة البيوت).
ويبرز الكاتب بخفة دم أيام بطالته التى لم تنقطع وتلقى عباراته بظلالها على أوضاع المهنة اليوم وما تعانيه الصحافة الحزبية خاصة وهى التى كانت فى عز ازدهارها وقت أن بدأ تحت قيادة أسماء مثل مصطفى شردى ومحمود عوض بينما تطلق اليوم تغريدة البجعة الأخيرة.
وبإمكان القارئ أيضا تأمل مسارات لوجوه إعلامية كانت تبدأ خطواتها الأولى وترسم أحلامها كما لا يفوته أبدا التقاط ملامح التطرف الدينى والكيفية التى استولى فيها المتطرفون على المجال العام عبر الهيمنة الناعمة التى بدأت من الجامعة التى كانت لا تزال قادرة على استضافة أسماء مثل أحمد بهاء الدين أو يوسف شاهين.