سياسة بدون سياسيين
جميل مطر
آخر تحديث:
الأربعاء 19 يونيو 2013 - 2:40 م
بتوقيت القاهرة
بدون طيار طارت طائرة تجارية على متنها ركاب من مطار فى إحدى مدن شمال إنجلترا وهبطت فى مطار مدينة أخرى. وبدون سائقين تجوب الآن مدنا عديدة سيارات تملكها شركة جوجل تمسح الأحياء وتصور المبانى وترصد حركة الناس.
النجاح الذى حققته تجربة طائرة بدون طيار رفعت أسعار أسهم الشركات التى تنتج هذه الطائرات، والنجاح الذى حققته تجربة سيارة بدون سائق دفعت شركات انتاج السيارات لإعلان أنها سوف تركز فى القريب العاجل نشاطها على إنتاج هذا النوع من السيارات، خاصة وأن الدراسات أكدت جدواها من حيث التكلفة والسلامة وحل مشكلات المرور.
سيارات بدون سائقين تجرى على الطرق يعنى سيارات تتصل ببعضها البعض، تنبه إلى مواقع الارتباك أو الاختناق المرورى، وتتبادل فيما بينها النوايا حول خطوط سيرها والمعلومات المتعلقة بالطرق البديلة وأجواء الطقس وتبدلاته المتوقعة. هذه الاتصالات بين أجهزة الاستشعار المحشوة فى السيارات لابد أن تنظمها شبكة مركزية للاتصالات.
وهذه بدورها تحتاج إلى أموال هائلة وروبوتات ذكية متطورة وعدد ضئيل جدا من الإداريين والمهندسين وعدد قليل جدا من العمال متوسطى أو عديمى المهارة. هذه الشركات العملاقة سوف تدر أرباحا طائلة كتلك التى تجنيها الشركات التى تدير حاليا شبكات الاتصالات الهاتفية الالكترونية.
●●●
تقارير المصارف والاستشاريين الاقتصاديين تؤكد أنه لا خوف فى أسواق المال على حركة الاستثمار فى المستقبل، ولا خوف على مسيرة التقدم التقنى، ولكن الخوف كل الخوف سيكون على فرص العمل المتاحة للانسان فى مستقبل الأيام، وهى الفرص التى تتضاءل يوما بعد يوم ومع كل قفزة يقفزها العلم والتكنولوجيا.
البعض منا يتعود شيئا فشيئا على أن يتعامل عند الحاجة مع شباك معدنى يطل من حائط مصرف أو فندق بدلا من أن يتكلف عناء الذهاب إلى مصرفه ويقف فى طابور أمام موظف أو موظفة وظيفتها صرف النقود أو استلامها.
نتعامل مع الشباك المطل على الشارع ولم نسأل يوما إن كان هذا الشباك قد تسبب فى أن يفقد موظف أو موظفة وظيفتها أو أضاف بوجوده عاطلا جديدا لم يجد فرصة عمل مناسبة بعد تخرجه من الجامعة. المؤكد بالنسبة لنا كمستهلكين هو أننا نحصل الآن على خدمة أكفأ وأسرع وأفضل.
●●●
وفى بلاد عديدة أصبح زبائن بعض محلات السوبر ماركت والملابس الجاهزة يتعاملون أكثر فأكثر مع آلة تنتظرهم قرب بوابات الخروج لتسجل بنود المشتريات وتجمع الحساب وتحصل النقود وتسلم إلى الزبون فاتورة الحساب مع كيس البضاعة المشتراة، كل هذا فى ثوان معدودة موفرا لصاحب المحل مرتبات عديد الموظفين وقيمة تأميناتهم وفواتير علاجهم وتعويضات إجازاتهم وإصاباتهم خلال العمل، وموفرا للزبائن وقتا واحتمالات خطأ فى الحساب وضيق نفس أو قلة صبر الموظف أو الموظفة.
●●●
ما زال الحوار، كما بدأ قبل قرنين من الزمان، حارا بين تيار من الاقتصاديين يعتقد أن التحول إلى الآلة يزيد فى النهاية فرص العمل لأنه يوسع الآفاق أمام الأنشطة الاقتصادية وتيار آخر يعتقد أن هذا التحول المتسارع مسئول عن أزمات البطالة وبخاصة أزمة البطالة الراهنة فى كافة الدول المتقدمة التى تسرع أو تكثف استخدامها للآلة للقيام بوظائف خلقت أساسا من أجل أن يقوم بها إنسان.
الأمر المؤكد هو أن آلاف الوظائف قد اختفت عبر التاريخ، منها مثلا وظيفة سائق عربات نقل ركاب يجرها الخيل وعربات نقل السلع يجرها الحمير وماكينات الحرث يجرها جاموس وثيران وأفيال. اختفت هذه الوظيفة فى دول عديدة.
اختفى أيضا السقا الذى كان يدور على بيوت المدينة يبيع المياه واختفت بائعة البيض والزبد التى ذاع صيتها فى المدن الصغيرة فى إيطاليا واختفت من شوارع ضواحى القاهرة وبخاصة حى المهندسين البدويات مربيات الماعز وبائعات حليبه فى زمن لم يكن الحى قد استكمل إعماره وقبل أن تزدحم شوارعه باللوريات المسرعة تفترس قطعان الماعز وتقتل كلاب حراستها.
●●●
نحن خلقنا هذه الوظائف ليمارسها بشر مثلنا، ثم خلقنا الآلة لتقوم بنفس الوظائف بدلا من البشر، ولكننا فى الوقت نفسه وباستخدام الآلة وفرنا وقتا ومالا وطاقة سمحت لنا بابتكار حاجات وخلق وظائف لها. تؤكد خبرتنا التاريخية أن حاجات الانسان لا نهائية وقدرته على التجديد والابداع بلا حدود، بمعنى آخر سوف يبقى الإنسان منتجا لحاجات ومجتهدا فى خلق وظائف تفى بهذه الحاجات.
●●●
يلح سؤال، ويزداد إلحاحه تحت ضغط فوضى السياسة فى مصر وتدهور أداء من اخترناهم لشغل وظائف سياسية وحزبية، معارضين ومسئولين. نسأل، متى ستنتهى حاجتنا للسياسة، وإذا لم يكن من السياسة بد فمتى سننعم بكفاءة وصدق وطهارة «إنسان آلى» يلبى حاجاتنا «السياسية» ويوفر علينا هذا الارتباك وسوء الإدارة والتخلف والغرور ويعفى الدين من الزج به فى صراعات السلطة وشهواتها.