مردخاى فعنونو وضمير الردع المكسور
مواقع عربية
آخر تحديث:
الخميس 19 يونيو 2025 - 7:40 م
بتوقيت القاهرة
نشر موقع 180 مقالا للكاتبة أورنيلا سكر، تناولت فيه أن مفهوم الردع التقليدى، وخاصة الردع النووى، لم يعد وحده كافيًا لضمان الأمن أو التفوق فى الصراعات المعاصرة، كما أوضحت الكاتبة أن الحرب بين إسرائيل وإيران عام 2025 تكشف عن تحوّل نوعى فى استراتيجيات الردع نحو أدوات غير تقليدية كالاستخبارات، والاغتيالات، والحروب السيبرانية، والتفوق التكنولوجى الدقيق، ما يجعل من قضية مردخاى فعنونو (فنى نووى إسرائيلى اشتهر لكشفه عن تفاصيل برنامج الأسلحة النووية الإسرائيلى للصحافة البريطانية) رمزًا لنقاش أعمق حول أخلاقيات الردع وحدود القوة... نعرض من المقال ما يلى:
فى زمن الحرب الإسرائيلية ضد إيران فى العام 2025، يعود اسم مردخاى فعنونو، ذلك الفنى النووى الإسرائيلى المغمور الذى قلب معادلة الردع منذ نحو أربعة عقود، ليحضر من جديد، لا كتفصيل تاريخى، بل كرمز فى النقاش المتجدد حول مستقبل الردع، حدود القوة، وتآكل السيادة.
مردخاى فعنونو، سرّب فى العام 1986 إلى الصحافة البريطانية معلومات وصورًا سرية من داخل مفاعل ديمونا، ليُفجّر أول اعتراف فعلى بأن إسرائيل، الدولة التى كانت تتبنّى سياسة «الغموض النووى»، تمتلك ترسانة نووية لا تقل عن 200 رأس حربى، بينها قنابل هيدروجينية.
ما فعله فعنونو لم يكن كشفا للمعلومات وحسب. هو تقويضٌ كاملٌ لركيزة كانت إسرائيل تبنى عليها عقيدتها الأمنية: أن تبقى فى الظل، لكنها تُرعب الجميع. غير أن العام 2025 ليس العام 1986. فالحروب تغيّرت، وأدوات الردع تطوّرت، والمنظومة الأمنية الإسرائيلية تجد نفسها أمام معضلات جديدة، لا تحلها الرءوس النووية، بل تطرح أسئلة تتجاوز قدرة «الردع الكلاسيكى» على الإجابة، بدليل الوقع الكبير للصواريخ الباليستية الإيرانية فى قلب تل أبيب وحيفا ومعظم النواحى الإسرائيلية.
الضربات الإسرائيلية التى تطال العمق الإيرانى لم تستهدف فقط المفاعلات النووية وحسب، كما حصل سابقا فى النموذجين العراقى والسورى. هم يستهدفون أولا العقول التى صنعت وطوّرت التقنية النووية فى إيران. اغتيالات متزامنة لعلماء نوويين، ضباط أمن، ومهندسى صواريخ، فى قلب طهران وأصفهان وكرج وحتى مشهد وتبريز، ما أظهر تحولًا نوعيًا فى العقيدة الإسرائيلية: من الردع النووى إلى الردع الاستخباراتى، ناهيك بقدرة على اختراق العمق الإيرانى بشبكات من العملاء تمكنت من قتل القادة العسكريين والعلماء النوويين، من خلال عمليات أمنية مركبة، وهذا مسار دشّنه الإسرائيليون منذ سنوات فى إطار «حرب الظلال» المفتوحة بينهم وبين الإيرانيين (استهداف بواخر وقتل علماء وعمليات قرصنة سيبرانية إلخ..). بهذا المعنى، لم تُسقط إسرائيل نظامًا، ولم تُلقِ قنبلة، لكنها أربكت إيران استراتيجيًا وأفقدتها الثقة - ولو لبعض الوقت - بأمنها الداخلى.
فى المقابل، جاء الرد الإيرانى ليخلق حدا أدنى من التوازن فى سياق محاولة ترسيخ قاعدة «الردع المتكافئ». لا قواعد اشتباك واضحة، ولا خطوط حمراء تُحترم، بل حرب استنزاف باردة بسلاح جو تتفوق فيه إسرائيل وبصواريخ أثبتت من خلالها إيران قدرتها على استنزاف الخصم الإسرائيلى.
إن استحضار فعنونو اليوم، فى ظل حرب الاستنزاف المفتوحة بين قوتين إقليميتين مسلحتين بأكثر من السلاح، يعنى استدعاء الجدل حول مفهوم «الردع»: هل الردع يتحقق فقط بامتلاك القنبلة النووية، أم بإثبات القدرة على استخدام أدوات صغيرة – ولكن دقيقة – لهدم البنى الاستراتيجية للعدو؟ فعنونو حذّر مبكرًا من عبء القوة، ومن منطق امتلاك «سلاح القيامة». واليوم، تبدو إسرائيل قد أدركت أن الغموض لم يعد كافيًا، ولا القنبلة وحدها تجلب الأمن، بل الحروب المعقّدة التى يتداخل فيها العسكرى بالأمنى والسيبرانى، ناهيك بالعقيدة والديموغرافيا والجغرافيا والمقدرات والموارد إلخ.. تقليديًا، اعتمدت إسرائيل على نظرية «الضربة الثانية» (Second Strike Capability)، أى قدرتها على الرد النووى فى حال تعرّضت لهجوم مدمر. هذه العقيدة كانت تهدف لضمان الردع حتى فى أحلك السيناريوهات. لكن واقع 2025 يفرض تحولًا: الردع لم يعد مبنيًا على التهديد باستخدام النووى، بل على تنفيذ عمليات دقيقة تُربك الخصم دون أن تجرّ حربًا شاملة.
مفهوم «الضربة الصامتة» يحل محل «الضربة الثانية»: الاغتيال يغنى عن الصاروخ، والطائرة المسيّرة تغنى عن الطائرة الحربية. حين كشف فعنونو البرنامج النووى الإسرائيلى، غرق العالم فى صمت كبير. لم تُفرض عقوبات، ولم تُدن إسرائيل. اليوم، حين تُغتال شخصيات علمية، ويُخترق الأمن الإيرانى، يتكرر الصمت نفسه.
هذه الازدواجية تعيد طرح سؤال جوهرى: هل الردع مشروعٌ أخلاقيًا حين يكون بيد طرف دون الآخر؟ وهل الردع فعّال حين يُدار من خارج القانون الدولى»؟ وماذا عن ازدواجية المعايير؟
العالم اليوم، كما تُظهر الحرب الإسرائيلية – الإيرانية، لا يتحرك وفق منطق الحرب الباردة القديمة، بل فى ظل فوضى شاملة: الردع النووى لم يعد ضمانًة للسلام. السيادة الوطنية باتت قابلة للاختراق فى كل لحظة. التفوّق الاستخباراتى صار أهم من امتلاك السلاح نفسه. النظام الدولى فقد سلطته على تنظيم قواعد الردع.
فى ظل هذا المشهد، يصبح مردخاى فعنونو أكثر من مجرد شخص كشف سرًا. إنه صوتٌ مبكرٌ لما يعيشه العالم اليوم: حروب بلا جيوش، ردع بلا صواريخ، وخصومات بلا نهاية. ماذا إذا لم تستطع إسرائيل أن تربح فى معركتها مع إيران؟ هل تلجأ إلى السلاح النووى؟ وهل تستطيع إيران بناء توازن ردع من دون اللجوء إلى السلاح النووى؟ وهل يبقى العالم صامتًا أمام هذه الهندسة الجديدة؟
النص الأصلى: